منذ العام 2003 ومع بدايات انخراط التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر في النظام الجديد كجماعة سياسية بشكل تدريجي، كانت استراتجيته تعتمد غالبًا على المناورة بورقتي الوجود السياسي الممثل بذراعه البرلمانية التي اتخذت مسارًا تصاعديًا من حيث القوة والحجم، ووجوده في الشارع الممثل بذراعه الجماهيري الضخم.
تساؤلات تطرح حول مدى إمكانية إعادة ترميم العلاقة بين التيار الصدري ومتظاهري انتفاضة تشرين خصوصًا بعد انسحاب الأول من البرلمان
وبحسب باحثين سياسيين، فأن هذه الاستراتيجية شكلت مع الوقت صورة التيار الصدري المعتادة ككيان سياسي يمارس دورًا مزدوجًا بوضعه قدمًا في السياسة، وما يترتب عليها من مشاركة في الحكومات المتعاقبة، وقدمًا أخرى في المعارضة الشعبية لذات الحكومات عبر تنظيم فعاليات احتجاجية تبلورت بشكل ممنهج بعد العام 2015 ومشاركته "القوى المدنية" لساحات الاحتجاج في الموجات اللاحقة وصولًا لموجة احتجاجات تشرين 2019.
يرى متظاهرون وناشطون في انتفاضة تشرين، أن التيار الصدري انقلب على ساحات الاحتجاج وتورط بسلسلة من الاعتداءات على المحتجين، من بينها مثلًا اقتحام أصحاب القبعات الزرق موقع الاعتصام في محافظة النجف، والاصطدام بالمتظاهرين مع استخدام السلاح وحرق خيام المعتصمين.
وعلى الرغم من ذلك، فأن سياسة التيار الصدري حافظت على باب العودة إلى شراكة "التشرينيين" في الساحات، خصوصًا بعد تعسر مخاض حكومة الأغلبية التي طُرحت عبر التحالف الثلاثي، وإعلان فشل مشروع الأغلبية بانسحاب التيار الصدري من العملية السياسية، وفقًا لفاعلين في الحراك الاحتجاجي.
ويتساءل مراقبون في ظل المسار المتوتر لعلاقة التيار الصدري بساحات الاحتجاج، إن كان المجال مفتوحًا أمام عملية إعادة ترميم الجسور المهدمة بين الطرفين.
مقتدى الصدر و"تشرين" .. خيار الواقع
عن هذا السؤال، الذي يأخذ أهميته من خطوات الصدر ما بعد انسحابه من العملية السياسية واقتحام مبنى البرلمان يوم الأربعاء 27 تموز/يوليو 2022، والذي يبدو كنزول تدريجي إلى الشارع لمواجهة قوى الإطار، يجيب الباحث منقذ داغر : "لا خيار أمام قوى تشرين من جهة ومن التيار الصدري من جهة أخرى إلا أن يعيدوا تحالفهم ويشكلون جبهة قوية تواجه جماعة الإطار والمتحالفين معه، إذ لا يمكن لهذا الموضوع أن يتم إذا نزلوا إلى الساحة لحالهم، وهذه هي الاستراتيجية التي تعمل عليها القوى المضادة لتشرين أي أن تجعلهم متفرقين من جهة وتجعلهم بعيدين عن التيار الصدري.
وفي حديثه لـ"ألترا عراق"، يبرر الباحث منقذ داغر هذا الخيار بالقول، إن "التيار الصدري هو الوحيد الذي من الممكن أن يقف من الناحية العسكرية واللوجستية وعنده القدرة على أن يقف في مواجهة المليشيات وجماعتها التي من الممكن أن تنزل إلى الساحة وتمارس عمليات التصفية التي مارستها من قبل".
يرى مراقبون أن تحالف التشرينيين مع الصدريين سياسي واقعي رغم أزمات الماضي
وسبق للتيار الصدري أن دخل في تنسيق مشترك مع الفاعلين في ساحات الاحتجاج على مدى سنوات الاحتجاج السابقة لعب خلالها أدوارًا تنظيمية وأمنية كان أهمها تشكيله مجموعات "القبعات الزرق"، ولكن هذا التنسيق انتهى عمليًا مطلع شباط/فبراير 2019 بعد هجوم أصحاب "القبعات الزرق" على ساحة التحرير وعدد من الساحات الأخرى في المحافظات.
مع ذلك، يبقى "خيار التحالف مع الصدريين خيارًا سياسيًا واقعيًا الآن، على الرغم من إدراك حجم جراحات الماضي وما عانته تشرين وما عاناه التشرينيون من المشاكل مع القبعات الزرق وجماعتها" بحسب الباحث منقذ داغر.
ترميم العلاقة.. ما هي المعرقلات؟
ورغم كون سيناريو إعادة ترميم العلاقة مع مقتدى الصدر يبدو خيارًا واقعيًا يدعمه الظرف السياسي الراهن، إلا أن هناك ما يكفي من العوامل المعرقلة التي من الممكن أن تجهض مثل هكذا خطوة صدرية اتجاه "التشرينيين"، بحسب الناشط السياسي زين العابدين آل يوسف.
يستبعد ناشطون إمكانية إعادة بناء الجسور بين حراك تشرين والتيار الصدري
"تشرين هنا ليست جهة منظمة حتى يمكن أن نحكم عليها كجهة تمتلك قرارًا موحدًا مقارنة بالجماعة الصدرية المنظمة ذات المركزية في اتخاذ القرار، وعليه فأن التشتت في الآراء هو ما تعرف به مجموعات تشرين وأفرادها"، يقول زين العابدين آل يوسف.
ويضيف في حديثه لـ"ألترا عراق"، مشخصًا عاملًا آخر يعرقل ترميم العلاقة مع تشرين: "الخلاف المادي الذي تُرجم باعتداء التيار الصدري على الساحات، يحمله التشرينيون لقيادة التيار الصدري التي يفترض أن تقدم المتورطين والمحرضين إلى المحاكمة، وهذا مطلب العدالة لضحايا تلك الاعتداءات".
ويحمّل متظاهرو تشرين، مقتدى الصدر وأنصاره بالمسؤولية عن أعمال عنف شهدتها ساحات الاحتجاج في آخر فترة من الاعتصامات، عقب إعلان تكليف محمد توفيق علاوي بتشكيل الحكومة المقبلة.
ويتحدث الناشط السياسي زين العابدين آل يوسف عن عامل ثالث يعيق بناء الجسور مع تشرين: "لا ننسى أن التيار الصدري هو تيار ديني عقائدي وغالبية التشرينيين هم علمانيون، أو مدنيون، لا يرغبون بزج العقيدة الدينية كمنظومة تفرض صوابية سياسية على الدولة والمجتمع وهذا خلاف بنيوي لا يمكن أن يتوافق فيه الطرفان أبدًا".
"ملف الاعتداءات ليس ورقة في التسوية مع الصدريين"
أما عن سيناريو استمالة التيار الصدري لبعض الفاعلين في الحراك المحتج ومحاولة إعادة المياه إلى مجاريها بين الصدر و"تشرين"، يقول نوفل الصافي، وهو ناشط في ساحة احتجاج كربلاء: "أستبعد تمامًا أن يحدث تناغم من جهة احتجاجية ، أو ما يسميها البعض تشرينية، فإنها ستقع في فخ الاستبعاد من الضمير الاحتجاجي العراقي، وهناك تجارب سابقة في هذا المجال".
يعتبر ناشطون في حراك تشرين أن التنسيق مع الصدريين سيؤدي إلى سيطرتهم على ساحات الاحتجاج بحسب تجارب سابقة
ويتحدث الصافي لـ"ألترا عراق" عن طبيعة العلاقة مع الصدريين وعن إمكانية ترميم العلاقة معهم، بقوله، إن "ملف الاعتداءات ملف كبير تجاوزت ضحاياه حسب الإحصائيات أكثر من 1000 ضحية و30000 إصابة من بينها 5000 إعاقة دائمية" مضيفًا أنه "ليس من العدالة القبول بأن يصبح هذا الملف ورقة مساومة بين الذين يمتلكون المال والسلاح والنفوذ ويدّعون الإصلاح ومحاربة الفساد وهم من الجناة الذين لا ثقة لنا مطلقًا بهم؛ وبين قوى شعبية مورست عليها مختلف أساليب القمع".
وفي ضوء تاريخ علاقة قوى الاحتجاج مع التيار الصدري، يستبعد الناشط الكربلائي نوفل الصافي طرح تصور لإعادة تشكيل العلاقة داخل ساحات الاحتجاج، ويبدي مخاوفه إزاء التيار الصدري بقوله: "هناك تجربة لا يمكن أن تتكرر حدثت رغمًا عن الساحات وتحت عنوان (التنسيق في الساحات) وكانت في الحقيقة (خطف الساحات) والسيطرة عليها مركزيًا من قبل التيار الصدري وأهم هذه التجارب في ساحة التحرير وخفايا المطعم التركي وتجربة المواجهة القسرية وبالقوة في ساحة الحبوبي".
ويتهم ناشطون في ساحات الاحتجاج التيار الصدري بالقيام بعمليات قمع وملاحقة للمحتجين في بغداد وعدد من ساحات الاحتجاج مطالبين بفتح تحقيقات بهذه الحوادث، بينما لم تصدر أي استجابة أو ردود فعل رسمية من قبل قيادة التيار الصدري إزاء هذه الاتهامات.
تصفية الماضي أم اتفاق المستقبل؟
يتحدث بعض الباحثين السياسيين عن حاجة للصدريين والتشرينيين لبعضهما البعض، استنادًا إلى أن الظرف السياسي الراهن يدعو لنقطة لقاء تجمعهم قبالة خصوم مشتركين لهم، ولكن سجلًا طويلًا من التوتر والصدامات تخللتها موجات قمع، تقف حاجزًا أمام لقاء الطرفين.
الباحث السياسي منقذ داغر، يؤشر نقطتين مفصليتين في هذا السياق، تتمثل الأولى بأن "على الصدريين والتشرينيين أن لا يختلفوا على الماضي بقدر اتفاقهم على المستقبل، وهذا هو المهم."، ويضيف: "في المستقبل يجب أن تأخذ ضمانات متبادلة وأن يبنى التحالف على أسس واضحة تضمن للتشرينين تهدئة مخاوفهم من التيار، كما يجب أن يفهم التشرينيون أيضًا أن التيار الصدري تيار سياسي طامح للسلطة".
وعن إمكانية فتح التيار الصدري ملف قمع ساحات الاحتجاج، يتحدث منقذ داغر عن النقطة الثانية بالقول، إن "المشكلة في التشرينين أنهم إلى الآن لا يملكون النضج السياسي ليفرقوا بين السياسة، كفن الواقع أو الممكن، وبين الطموح، فالسياسة لا تعتمد الطموح فقط، وإنما الواقع"، ويضيف لـ"ألترا عراق"، أن "الواقع يقول أن التيار الصدري لا يمكن أن يقدم كبش فداء في هذه المرحلة بالذات، والتي يواجه فيها هجومًا من قبل أعدائه، فالتضحية بمجموعة من الأشخاص بعيدة حاليًا".