الإرث التاريخي
قد يكون المجتمع العراقي من أكثر المجتمعات التي لديها إرث مثقل بالتفرقة والانقسام، وهذا ليس من اختياره، بل من صُنع الحُكام. ومنذ الفتح الإسلامي، قام الأموييون والعباسيون، والبويهيون بتحويل التنوع الاجتماعي إلى تفرقة، من خلال تصنيفات مثل "رافضي، ناصبي، زنديق، كافر، معتزلي" الخ.. يراد منها إقصاء الآخر تمامًا، وبذلك فككوا المجتمع، وجعلوا كل مجموعة تحارب الأخرى. ولم تختلف المسألة كثيرًا في زمن العثمانيين والصفويين اللذين احتلا وحكما العراق لمدة أربعة قرون وعقدين، وعمقا نزعات التفرقة، ومعهما ازداد صراع الحضارة والبداوة. بعد ذلك، في العقد الثاني من القرن العشرين- جاء الاحتلال البريطاني، ونشأت الملكية، وهنا لا بد من ذكر ما قاله الملك فيصل الأول آنذاك عن المجتمع العراقي، إن "البلاد العراقية هي من جملة البلدان التي ينقصها أهم عنصر من عناصر الحياة الاجتماعية، ذلك وهو الوحدة الفكرية والملّية [يقصد القومية] والدينية، فهي والحالة هذه مبعثرة القوى، مقسمة على بعضها"، ويضيف فيصل ويقول: "وفي هذا الصدد أقول وقلبي ملآن أسى، أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى". (العِمامة والأفندي ـ د.فالح عبد الجبار ص 84-86 ونقلًا من كتاب العراق قديمًا وحديثًا لعبد الرزاق الحسني).
يظن كثير من الناس بأن المجتمعات عبارة عن ماكنة تتغير من خلال القول لها: تغيري، توحدي، تطوري
وبالرغم من أن الفكر الوطني كان حديث النشأة في ذلك الوقت، ومن الطبيعي ألا يسود في العراق، إلا أن بقية ما قاله فيصل كان تشخيصًا لوقائع حقيقية، وفي في مطلع القرن العشرين، لم يكن العراقيون شعبًا واحدًا أو جماعة سياسية واحدة، وكان العرب الحضريون وعرب العشائر ينتمون إلى عالمين يكادان يكونان منفصلين (حنا بطاطو ـ كتاب العراق، المجلد الأول، ص31)، ناهيك عن الانقسام بين العشائر ذاتها، والمدن ذاتها، والفوارق الطبقية، وبعد سقوط الملكية، ومجيء الجمهورية، ومن طبيعة النظم الديكتاتورية أنها تحاول فرض لون واحد وفكر واحد، أي جعل المجتمع نسخ مكررة، وبالرغم من الاشتراكية التي زعمها القوميون والبعثيون؛ إلا أن أيديولوجيتهم كانت قائمة على التفرقة، من خلال تبنيهم للقومية العربية، وإقصاء سائر القوميات الأخرى، وهذا الحال استمر حتى عام 2003، حيث جاء الإسلام السياسي، وجعل التفرقة الطائفية نهجًا ثابتًا في إدارة الدولة. مع إرث كهذا يكون تفكك المجتمع وتفرقته تحصيل حاصل.
الجذر الأهم في المشكلة
منذ القدم والإنسان يرتحل بحثًا عن الموارد الاقتصادية للحياة، كالأكل والماء، كطبيعة بشرية تسعى للبقاء. وتدريجيًا، تحول هذا البحث إلى صراع بين البشر ذاتهم على ذات الموارد، واستخدموا فيه مختلف الأساليب البشعة والأسلحة الخطرة، فالموارد الاقتصادية كانت العامل الأهم لنشوب الحروب، وتمزيق الشعوب وتفريقها، أما أساليب التفرقة الدينية والقومية وغيرها فهي أدوات مكملة ومؤثرة في هذه المجريات.
اقرأ/ي أيضًا: السلطة وأتباعها: وجهان لعملة واحدة
"يا أخي ما يتوحدون"، يظن كثير من الناس بأن المجتمعات عبارة عن ماكنة، تتغير من خلال القول لها: تغيري، توحدي، تطوري! هذه المواعظ الساذجة لو كانت تنفع، لنفعت منذ آلاف السنين؛ والغريب أنهم يتذمرون من الانقسام، وكأنه حالة طارئة، كما يظنون بأن المسألة بسيطة، فيضعونك بين خيارين، أما أن تتوحدوا أو نترك القضية، وبعضهم عدها مشكلة آنية، وبنى موقفًا على أثرها! والأغرب حقًا أن أربعين مليون عراقي، يدعون كلهم إلى الوحدة، فلا أعلم من هم المتفرقون؟! ومثلما اخذت تفرقة المجتمع وتفكيكه مئات السنين، فإن تلاحم وتوحيد المجتمع يحتاج الكثير من الوقت، ويحتاج عمل على ذلك، لا أن نقف جانبًا ونتهرب بدعوى "عدم التوحد"، كما أن ترديد مقولة "ما يتوحدون" ستعزّز الانقسام، لأنها تصنع وهمًا يجرد الفرد من المسؤولية، ويُلقيها على الآخرين.
الميل إلى التفرقة
يميل الناس أو الأشخاص عادةً إلى التفرقة أو الانقسام لأسباب عدة:
- العامل الاقتصادي.
- إرثهم الانقسامي.
- عدم القدرة على احتواء واستيعاب الآخرين المختلفين، وذلك جراء غياب المعرفة، وبالتالي الذهاب باتجاه إقصائهم.
- عدم تنظيم العلاقة بين المصلحة الخاصة والعامة وكذلك المصالح الخاصة بين الأفراد ذاتهم.
- عدم القدرة على إدارة التناقضات الطبيعية (غير المخالفة للقانون).
- قلق المصالح الخاصة. حيث تتمثل بسلوكيات عدة (الإنانية المفرطة، الاستعجال بالوصول، النرجسية، الخسارة، النكاية بالمواقف، الحفاظ على المكاسب الذاتية، السيطرة المفرطة.. الخ).
- وأحيانًا يكون الانقسام أو التفرقة جراء أسباب جوهرية، ومصالح عامة، وهذه الحالة أقل من الحالات الأُخرى.
التنوع والتفرق
إن فكرة توحيد المجتمع، لا تعني قط أن نكون نسخًا مكررة (نفس الآراء، والتوجهات، والمعتقدات، والرغبات.. الخ) فهذا ضرب من الخيال وغير موجود في كل بلدان العالم، أي أن التنوع لا يعني التفرقة والانقسام بالضرورة، كما يظن بعض الموهومين والمتذمرين من أي ملامح اختلاف وتنوع، وفي الوقت ذاته، فإن اجتماع أغلب أفراد المجتمع على بعض المفاهيم العامة، على سبيل المثال (سيادة القانون، مدنية الدولة.. الخ) يُعد ضرورة ملحة.
كيف نتوحد؟
في البدء، علينا أن نعترف بالمشكلة، وبأن كل فرد منا لديه تراكم من الإرث، يجعله يميل إلى التفرقة أكثر من التوحد، وبالتالي، لا بدّ من تحمل ومعالجة هذا الداء الاجتماعي، من خلال معرفة وسلوك مضادين له. يمثل التعايش أحد الركائز الأساسية لجعل المجتمع متماسك ومتحد، ويتحقق من خلال طريقين يسيران بشكل متوازي، أحدهما: القانون (تشريعًا وتطبيقًا)، والآخر: ثقافة عامة، تزرع التعايش بين أفراد المجتمع، كما أن علينا أن نميل إلى احتواء الآخر واستيعابه لا إقصاءه، لأن إرثنا الإقصائي يمثل أحد أهم أسباب التفرقة الاجتماعية لدينا، وبما أن احتواء الآخر واستيعابه يحتاجان إلى فكر ومعرفة وجهد؛ فنجد الآخرين يستصعبون ذلك، ويذهبون باتجاه الإقصاء، ظنًا منهم بأن هذا هو الخيار المريح، دون أن يفكروا بالنتائج، كما أن رغبتنا الاقصائية ناتجة من سلوكياتنا الانفعالية، فنحن نفتقر للنفس الطويل والصبر الاستراتيجي.
لا شك أن الحلول كثيرة، وهذا الموضوع (تحليله ومعالجته)؛ هو من مهمة المختصين في علوم الاجتماع والانثروبولجيا وعلم النفس المجتمعي وعلم نفس الجماهير، وعليهم أن يوظفوا كل جهودهم لغرض توحيد المجتمع، وتعزيز تماسكه، عند ذلك مؤكدًا سيتغير واقع العراق بشكل كبير جدًا، في الختام نقول إن كل ما ذكرته أدى لأن لا تكون تشرين موحدة بشكل كبير، لأن تشرين نتاج هذا المجتمع بكل محاسنه ومساوئه.
اقرأ/ي أيضًا: