17-فبراير-2020

.....

وكأنها كرةُ نارٍ، تتقاذفها القوى الشيعية دون السيطرة عليها، ولا سبيل لرميها بعيدًا، احتارت القوى الشيعية في كيفية ترويض الديمقراطية ونظامها ودستورها. تورطت بها كضرورة واجب التشبث بها للتخلص من نظام صدام حسين وفق شروط الولايات المتحدة، ثم كفرت في استخدامها مرارًا، وتحديدًا، في موضوع منصب رئيس الورزاء الخاص بالشيعة وفق تقسيمات المحاصصة الطائفية: من خرقٍ للمدد الدستورية إلى تجاوزٍ على الكتلة الفائزة إلى تنصيب رئيس متواضع انتخابيًا، إلى تكليف رئيس دون تحديد من كلّفه أو هوية الكتلة الكبرى.

القوى الشيعية أبت أن تُقدم محمد توفيق علاوي إلا بالطريقة النشاز التي تدوس على قيم وهيبة انتفاضة تشرين فضلًا عن المبادئ الديمقراطية

إنه التوافق وكفى.. لماذا هذه التساؤلات المزعجة؟

بعد الانتخابات الأخيرة بعشرة أيام، كتبت هنا مقالة بعنوان "حكومة الجميع اليتيمة"، قلت فيها إن "لا إصلاح في حكومة الجميع التي سيتبناها الجميع عند توزيع المناصب، وينكرها الجميع حين تُبات العيوب، ويأتي على الذكرِ الفساد".

اقرأ/ي أيضًا: تعهدات وتحديات جسيمة.. هل ينجح محمد توفيق علاوي؟

تشكلت حكومة الجميع بتوافق زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر ورئيس كتلة بدر هادي العامري على عادل عبد المهدي، وموافقة القوى الأخرى بشيعتها وسنتها وكردها، ولم يمر عام عليها حتى انتفض الشارع في الأول من تشرين الأول، وعاد الفرز إلى نقطته الأولى ـ بعد قمع الاحتجاجات بالقناص والرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع الموجهة نحو الرؤوس ـ: الصدر يخاطب عبد المهدي بـ "ارحل"، والعامري ورفاقه يتمسكون به. الصدر مع المتظاهرين في الموجة الثانية للاحتجاج، والقوى الأخرى المساندة للحكومة تتفنن بقمع الاحتجاجات واعتقال الناشطين والاعتداء عليهم ناهيك عن الاغتيالات التي تُسجّل ضد "مجهولين".

ذاتُ الفرز الذي كان في 2018، وذاتُ النهاية، عاد المشهد في ساحة القوى الشيعية بعد اغتيال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، مع تبدّل غير جذريٍ في موازين القوى، فبعد أن كانت جبهة فصائل الحشد الشعبي هي الأكثر دعمًا لعبد المهدي ـ مرشح التوافق ـ صار الصدريون هم الأكثر دعمًا لمحمد توفيق علاوي ـ مرشح التوافق ـ مرشح الفتح بموافقة سائرون، مقابل مرشح سائرون بموافقة الفتح. تغيّرت الموازين داخل الصيغة التوافقية التي جاء بها عبد المهدي، لكنها بقيت الصيغة ذاتها، أي يتم اختيار رئيس الوزراء من بين كبار القوى الشيعية وبموافقة الصغار من جهة، وصراع الكرد والسنة على الحصص والمغانم من الرئيس المُختار. تلك الطريقة التي لم تخلق أي ديناميكية في نظام الحكم بعد 2003، بل عززت حالات الانسداد السياسي والاقتصادي، والصراع على المناصب، وابتعاد السلطة أكثر عن الشارع.

تشبث نوري المالكي بالمنصب رغم فوز ائتلاف العراقية بقيادة إياد علاوي، وضُرب الدستور ومدده عرض الحائط، وما إن حصل على مراده، تشبث ثانيةً بالمنصب لولاية ثالثة حتى سقطت المحافظات الست بيد تنظيم داعش واضطرت القوى الشيعية لعزله والإتيان بالعبادي الذي لم يحصل سوى خمسة آلاف صوت في الانتخابات آنذاك، ثم تصارع تحالفي سائرون والفتح في 2018 حتى جاءا بعبد المهدي الذي لم يرشح للانتخابات، على طريقة العشائر التي تلجأ للـ"منكـَول" لحل الخلافات فيما بينها؛ لكن "المنكـَول" هنا يقود دولة دون أن يقود، ودون حتى أن يحل الخلافات بين العشيرتين، أو الكتلتين.

 لم يكن إسقاط عبد المهدي على أجندة الشباب المنتفض بشعار "نريد وطن"، بل كان ناقمًا على الوضع السياسي برمته، مُناديًا مرةً بإسقاط النظام، ومرةً بالإصلاح، من خلال الشعارات التي رفعها، لكن القمع أوصل المحتجين إلى وضع "إقالة عبد المهدي" شرطًا مبدئيًا للتفاوض على بقية المطالب، التي تضمنت رئيس حكومة "انتقالية" من خارج الطبقة السياسية.

الحق نقول، لا يتساوى محمد علاوي مع الكثير من الأسماء التي طُرحت رسميًا أو تسريبيًا لمنصب رئاسة الوزراء، من المتحزبين وأبناء التحالفات الطائفية والمشهورين بفسادهم؛ لكن القوى الشيعية أبت أن تُقدمه إلا بالطريقة النشاز التي تدوس على قيم وهيبة انتفاضة تشرين فضلًا عن المبادئ الديمقراطية.

قد يعتقد الصدر أن تمرير علاوي سَيُمكنه من تحقيق أهدافه، لكن الحالَ سيبقى على ما هو عليه، هذا إذا ما انقلب عليه من جاء به بسبب تشكيلته الوزارية أو لاحقًا لأسباب أخرى

يبدو أن القوى التي ناضلت من أجل بقاء عبد المهدي قد أوكلت ـ مرغمةً ـ مَهمة قصقصة  أجنحة انتفاضة تشرين لمقتدى الصدر وتمكينه من تكليف رئيس بمواصفاته لا مواصفات المتظاهرين، وفي الوقت الذي كان التلفزيون الرسمي يبث صورًا لمراسيم تسليم رئيس الجمهورية كتاب التكليف لمحمد علاوي، وبيان الأخير المصور بعد ذلك، كانت "تواثي" أصحاب القبعات الزرق تُلاحق الهاتفين بـ "مرفوض" ضد علاوي.

اقرأ/ي أيضًا: الرهان المستحيل

لقد جمعت القوى السياسية الشيعية في محمد علاوي أمرين: الأول أنه "مرشحٌ لقيط" بتعبير مجازيٍ، حيث لم يُفصح رئيس الجمهورية عن الجهة التي رشحته. والثاني، أنه "مرشحُ التواثي"، حيث تم إخراس الأصوات الرافضة له بالقوة، ولا أدري كيف يُمكن لسياسيٍ أن يرضى بكونه مرشحًا بلا أب، يُمرر بالتواثي!

يعيش "المنكـَول" الجديد أجواءً حالمة بإصلاح ما يُمكن إصلاحه، وقد يعتقد الصدر أن تمريره سَيُمكنه من تحقيق أهدافه، لكن الحالَ سيبقى على ما هو عليه، هذا إذا ما انقلب عليه من جاء به بسبب تشكيلته الوزارية أو لاحقًا لأسباب أخرى. والأهم من ذلك، أن الديمقراطية التي حاول منتفضو تشرين إحياءها، قابلتها القوى السياسية ككرة نارٍ تتقاذفها دون أمل بترويضها، متناسين أن كرة النار المُتقاذفة ستحرق الجميع في نهاية المطاف.

عادت الحكاية ثانية، رئيس بلا أب، يدعمه الجميع، و"يدعوه" الجميع إلى الإصلاح في وسائل الإعلام، ويحمّله الجميع مسؤولية الإخفاقات، ويتحدّث الجميع عن ضغوط يُمارسها الجميع عليه، لكن الجديد هو الضيف الثقيل، المزعج لمعارك الأحزاب المملة، هو انتفاضة تشرين، التي لن ترحم نظامًا ديمقراطيًا يُسعَف بالقوة.

رفضت انتفاضة تشرين الخطاب الطائفي والعملية التوافقية، وأهانت كتلًا وقوى سياسية كانت ذات شأن، وكسرت حاجز الخوف لدى الناس، وزلزلت الأرض تحت أقدام المتنفذين من الخارج، وأثبتت أن العراق مُقبل على جيلٍ يمتلك من العناد ما يُمكّنه على كسر القواعد التي ثبّتتها الأحزاب، رغم كل محوالات وأد انتفاضتهم وكسر إرادتهم وتسويف مطالبهم. لكن السؤال الذي سيبقى مفتوحًا خلال الأيام القادمة: هل يعي صنّاع القرار أن ما سبق غير مُتاحٍ أن يعود؟

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

العراق.. مآلات الثورة

تحديات المصلحة الوطنية العراقية