منذ الساعات الأولى لعملية طوفان الأقصى، انتشرت مقاطع وصور تشبه ألعاب الفيديو، تظهر مقاتلي المقاومة الفلسطينية يَعبرون بالمناطيد الشراعية مثل "دوق فليد" بقفزاته ودراجته النارية من قطّاع غزة المحاصر إلى غلاف غزّة المحتل، مزعزعةً نظرية أمنية واستراتيجية عسكرية، ونموذجًا اقتصاديًا فريدًا، سنرى آثاره لاحقًا. بدت المشاهد غير معقولة، لناحية عدم تصديق ما جرى بوصف الفاعل فصائل محشورة وسط قرابة مليوني إنسان في مدينة ساحلية بمساحة 365 كيلو متر مربع، اُحتلت 40 عامًا، ثم حوصرت 20 عامًا.
عملية طوفان الأقصى غير المسبوقة فرضت توقعات بردٍ فاق التوقعات لاحقًا من جوانب معينة
هذا العمل والإتقان والتهديد "غير المسبوق"، الذي كسر أحد أبرز أهداف هنري كيسنجر وهو "منع إذلال عسكري آخر" لإسرائيل، قَدَح في الذُهن تصوراتٍ عن "غير معقول" سيجري بالمقابل بعد هذه العملية: تدمير غزّة. تحدث المفكر العربي عزمي بشارة في ظهوره التلفزيوني الأول بعد عملية طوفان الأقصى، ناصحًا أهل غزّة بتوقع "السيناريو الأسوأ". ثم خرج بشارة بعد ذلك لمرّات يتحدث عن أسوأ جرى، وأسوأ سيجري، والحبل على الجرار.
إن التدمير بوصفه نتيجة نهائية ليس هو الموضوع، بل طريقة التدمير مرفقة بالتصريحات البشعة والتهديدات والكذب المستمر، والبروباغندا الإعلامية الغربية والفضائح التي طالت مسؤولين غربيين صاروا محط سخرية، فضلًا عن العجز العربي. والحق، لسنا بصدد إعادة ما جرى الحديث عنه باستفاضة سواء من الشباب العربي المتضامن مع فلسطين، أو المثقفين والمؤثرين في الداخل والخارج، بل ترتيب بعض الأحداث وتنضيدها بغرض التوثيق، مع عقد مقارنات لعلها تنفع في المستقبل.
ولوضع الهدف المنشود في السياق، نشير إلى افتراضنا التالي: ما هو غير معقول هو المرفوض قبولًا أو تصديقًا من عقل وقلب الإنسان؛ لكن فعله بتكرار وتعمّد وتجاهل ينفي صفته، ويغدو "طبيعيًا"، في عالمٍ احتاج بحار من الدم كي يتجاوز التطبيع واستسهال سفك الدماء البريئة.
في البدء كان الطوفان
في أولى ساعات السبت 7 تشرين الأول/أكتوبر، بدأنا نقرأ ونسمع أحاديث تتبنى الحجة التي تتمحور حول: "إسرائيل ستدمر غزة". وبغض النظر عن البُعد الأخلاقي في الحديث عن خيارات المقاومة، ألزمتنا تلك النقاشات - التي اختزلت 70 عامًا بالسابع من أكتوبر - بالحديث عن معاناة أهل غزة مع غلق المعابر والتضييق على المشتقات النفطية والكهرباء والحرمان من الماء والكثير من الأدوية والسلع والأغذية الأساسية، وهي مأساة تخللتها 15 عملية عسكرية مختلفة شنتها إسرائيل على غزة.
قلنا في البدء، إن إسرائيل شنت في أواخر 2008 حربًا على غزة "بهدف القضاء على المقاومة"، استمرت 23 يومًا، استخدمت فيها ألف طن متفجرات وأسلحة محرمة دوليًا، وقتلت 1430 فلسطينيًا منهم أكثر من 400 طفل و240 امرأة و5400 جريح، وهي أرقام تقارب ما خلّفته الحرب الحالية في خمسة أيام فقط، وها هي الآن تجاوزت يومها السبعين.
ثم عادت إسرائيل بعد 4 سنوات لتغتال قائدًا في كتائب عز الدين القسام، واندلعت معركة استمرت 8 أيام، قتلت فيها إسرائيل 180 فلسطينيًا بينهم 42 طفلاً و11 امرأة وأصابت 1300 آخرين.
عمد الداعمون لإسرائيل على اقتطاع كل ما جرى خلال العقود السابقة وبدء النقاش بعملية طوفان الأقصى
ثم بعد أقل من سنتين تندلع أزمة اختطاف طفل فلسطيني مقابل مستوطنين وتغتال إسرائيل 6 من عناصر حركة حماس، وتندلع معركة تستمر 50 يومًا تهدف إلى "تدمير الأنفاق"، قتلت خلالها إسرائيل 2422 فلسطينيًا وأصابت 11 ألفًا، وقضت على عشرات العوائل.
في ربيع 2018 فتحت إسرائيل النار على محتجين فلسطينيين على حدود غزة وقتلت أكثر من 170 فلسطينيًا محتجًا برصاص الاحتلال واشتبكت حماس بالقوات الإسرائيلية. وفي خريف 2019 اغتالت إسرائيل قائدًا في حركة الجهاد هو وزوجته بصاروخ استهدف شقته لتندلع معركة استمرت 3 أيام قتلت فيها إسرائيل 34 فلسطينيًا وأصابت 100، بين أعضاء في الحركة ومدنيين.
وما زالت الذاكرة تحافظ على معركة أيار/مايو 2021 حين استولى مستوطنون على بيوت فلسطينيين في حي الشيخ جراح في القدس، واقتحمت القوات الإسرائيلية المسجد الأقصى، وكانت المقاومة الفلسطينية هذه المرة ترد على الاعتداء بالصواريخ، لتندلع معركة قتلت فيها إسرائيل 250 فلسطينيًا وأصابت 5 آلاف، فقط في غزة.
بعد عام وثلاثة أشهر، اغتالت إسرائيل قائدًا في سرايا القدس في غزة عبر طائرة مسيرة داخل شقته السكنية، بعد أن اغتالت قياديًا آخر في حركة الجهاد. واندلعت معركة مع الفصائل، قتلت إسرائيل فيها، خلال أيام، 41 فلسطينيًا من المقاومة والمدنيين، بينهم 15 طفلًا، وأصابت أكثر من 300، في غزة.
وقبل طوفان الأقصى بخمسة أشهر، كان قطاع غزّة على موعد مع غارات جوية إسرائيلية على القطاع تستهدف قياديين في حركة الجهاد، لتندلع معركة استمرت 5 أيام، قتلت فيها إسرائيل أكثر من 30 فلسطينيًا بينهم 6 أطفال.
كان هذا السرد المستعجِل في بادئ الأمر، تذكيرًا لمن يرددون النظرية الإسرائيلية ويقترحون فرضيات على المقاومة وكأنها دولة مقتدرة فوق متوسطة: أي إنها تدخل المعركة ولديها القدرة على منع جيش الاحتلال من إيذاء المدنيين. وتذكيرًا بمحطات تؤدي إلى السؤال الأهم: ماذا تقترحون لإيقاف هذه المأساة التي تتعرض لها غزة منذ 6 عقود قبل 7 أكتوبر؟
نفّذت إسرائيل قبل السابع من أكتوبر 15 عملية عسكرية في غزة قتلت وأصابت خلالها عشرات آلاف الفلسطينيين
تذكر قصةُ النبي نوح في الكتاب المقدس والقرآن، الأزماتِ التي استدعت من الإله إغراق الأرض في طوفان الماء، متمثلةً بشرِّ البشرْ على طول الخط منذ بدء الخليقة حتى قبل صعود نوح إلى سفينة النجاة، بينما عمد الإسرائيليون ومن خلفهم الداعمون الغربيون من حكومات ووسائل إعلام إلى محو تاريخ الشر، والبدء بالسابع من أكتوبر: في البدء كان الطوفان.
أدى اقتطاع السياق التاريخي للقضية وتجاهل مأساة فلسطين وقصة غزة، إلى القفز لنقطة الحدث وابتزاز المسؤولين والمثقفين والناشطين بسؤال الإدانة: ?Do You Condemn Hamas (هل تدين حماس؟). لكن إعادة السرد يعيد تفسير ما حدث، ثم يغدو ركيزةً للمقارنة مع ما يجري بالمقابل.
المحرّمات.. الكذب الأسود
منذ اندلاع الحرب، استخدمت القوات الإسرائيلية قنابل الفسفور الأبيض المحرّم دوليًا في حربها على الفلسطينيين في غزّة، وفي جنوب لبنان ردًا على حزب الله، مع ما يعرف عن هذا السلاح من تسببه بإصابات خطيرة وطويلة الأمد، والتي بطبيعة الحال تصيب المدنيين، كما تؤكد منظمة "هيومن رايتس ووتش"، إذ يؤدي استخدام الفسفور الأبيض إلى "حرق الناس، حراريًا وكيميائيًا، وصولًا إلى العظم لأنه قابل للذوبان بدرجة عالية في الدهون، وبالتالي في اللحم البشري. كما يمكن لشظايا الفسفور الأبيض أن تفاقم الجروح حتى بعد العلاج". استخدمت إسرائيل الفسفور الأبيض قبل إقدامها على عملية الاجتياح البري في نهاية تشرين الأول/أكتوبر، وبعده بالطبع، فهل عاد تصنيف الفسور الأبيض على أنه "محرّم دوليًا" ذا قيمة بعد الآن في عالمنا؟
منذ بدء الحرب أيضًا، أعلنت إسرائيل بوضوح قطع الماء والكهرباء والدواء والاتصالات وكل ما يجعل الحياة ممكنة حتى تحت القصف، عن قطاع غزّة. نزح ما يقارب نصف سكان وسط وشمال القطاع إلى الجنوب أملًا بصدق الوعود الإسرائيلية التي خيّرتهم بين الموت أو النزوح جنوبًا. لكن مرة أخرى: أبادت الطائرات الإسرائيلية نازحين خرجوا نحو الجنوب بناء على تحذيرات جيش الاحتلال، تاركة جثثهم في منتصف الطريق، بين الموت والنزوح، في فعل لم يُقدم عليه حتى تنظيم "داعش" الذي فتك بالأيزيديين في العراق. جعلت إسرائيل قتل المدنيين النازحين العزّل معقولًا ومحلّ نقاش في عالمنا.
ومنذ بدء إسرائيل حربها على غزّة وحتى الآن، وهي تنتابتها هستيريا المستشفيات. قصفت إسرائيل وأخلت واقتحمت المستشفيات في معظم مدن قطاع. وأنكرت ذلك ابتداءً بعد مجزرة المستشفى العربي المعمداني، التي أفزعت العالم بما هو "غير معقول"، ثم راحت تستهدف محيط المستشفيات مع تبرير بوجود قيادات المقاومة أو أنفاق لها، وتقصف سيارات الإسعاف بطواقمها ومرضاها وجرحاها. ثم امتنعت عن عناء التبرير بعد ذلك، وراحت تحاصر المستشفيات وتتفرج على موت المرضى والأطفال تارةً بسبب الحصار داخل المستشفى دون علاج وكهرباء وغيره، وتارةً حين أخرجتهم عنوةً من المستشفى. مشهد من "غير المعقول"، في استهداف المحرّمات الدولية خلال الحروب (اتفاقية جنيف) والإنسانية خلال الحروب (في قتل ما يرمز للحياة)، جعلته إسرائيل معقولًا ومسبوقًا.
استخدمت إسرائيل أسلحة محرمةً دوليًا، وقطعت أساسيات الحياة عن المدنيين، وقصفت المستشفيات، وقتلت الصحفيين
إن النماذج التي ذكرناها ليست أقل من العنوان الرئيس: إبادة سكّان وأحياء وعائلات كاملة في قطاع محاصر. وليست أقل من أن يكون الأطفال هم ثلاثة أرباع ضحايا حرب تخوضها "الدولة الديمقراطية". لكنها نماذج لا تتعثر بلعنة الأرقام. نماذج قائمة على الحدث والصورة والحقيقة، صالحة للمقارنة مع ما سبق، وما سيجري، من محرّمات في الحروب، لم تعد "غير معقولة"، وهو فضلٌ إسرائيلي على البشرية في عودتها إلى ما قبل العام 1946، بل إلى العصور الغابرة.
تختلط المحرّمات بالكذب الفاضح في هذه الحرب. نال الصحفيون نصيبهم من القصف الإسرائيلي على قطاع غزة وجنوب لبنان. يرتدي الصحفيون زيًا (Uniform) يميّزهم عن غيرهم، خصوصًا المقاتلين في المعارك، بوصفهم من محرّمات الاستهداف. لكنها إسرائيل على أية حالة. في البدء قالت الخارجية الأمريكية إنها "تقف مع الصحفيين في العالم لما يقومون به من عمل بالغ الأهمية وأحيانًا في ظروف خطيرة". بعد انتهاء الهدنة المؤقتة، وصل عدد الضحايا الصحفيين الذين قُتلوا بالقصف الإسرائيلي إلى أكثر من 80 صحفيًا. آنذاك، قالت الخارجية الأمريكية - في كانون الأول/ديسمبر، أي بعد شهرين من القتل المتواصل -: "ليس لدينا معلومات بشأن استهداف إسرائيل الصحفيين في النزاع في غزة".
إلى جانب الغطرسة، يحتاج انتهاك المحرّمات وقواعد الاشتباك والقوانين الدولية والمعاهدات والمواثيق، للكذب. وثمة صورة تُدرَّس في الجمع بين استهداف الصحفيين والكذب حتى في قتلهم. قتلُ الحقيقة فعلًا ومجازًا. إن ما مارسته وتمارسه بعض الحكومات الغربية يمكن تصنيفه كذبًا رماديًا، يخفي جانبًا من الحقيقة، لكن هدفه هو خدمة الكذب الأسود الإسرائيلي الذي يرافق تدمير حياة الناس بوصفه ضرورةً كلاميةً ليس إلا. كذبٌ لا يحتاج إلى جهد لتلفيقه، ولا جهد لكشفه، وهو ما يجعله موازيًا لحجم الجريمة.
لقد بنت إسرائيل حربها على مقاسات غير مسبوقة، مستندة إلى أكاذيب أطلقتها في اليوم الأول للمعركة ورددتها حكومات غربية. صُدمت إسرائيل كما ذكرنا في مطلع المقال من "غير المسبوق" الذي فعلته المقاومة، و"غير المعقول" من قطاع محاصر ومراقب بأحدث الأجهزة والأنظمة الأمنية والتكنولوجية التي تُحسن إسرائيل صنعها بل وتصديرها. تتعدى الصدمة التي تلقتها إسرائيل النظرية الأمنية، بل العملية الاقتصادية المتمثلة بالقدرة المرنة للاقتصاد الإسرائيلي طيلة العقدين الماضيين على التكيّف مع التوترات الأمنية، والانطلاق منها نحو النمو، عبر الاستثمار في الاقتصاد الأمني والعسكري، وتصديره إلى الدول المتقدمة، استنادًا إلى النموذج الإسرائيلي الناجح في المراقبة والعزل وبناء الأسيجة الأمنية أولًا، وفوبيا الإرهاب ثانيًا.
لا يحتاج الكذب الإسرائيلي إلى جهد في تلفيقه أو كشفه
استعاضت إسرائيل، عن الإفصاح بهذه الحقيقة المرّة، بالكذب. والبدء كان بالترويج لقصة قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين، لتهيئة العالم الغربي لهول ما سيحدث. تبنى رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أكبر دولة في العالم، جو بايدن، الرواية الإسرائيلية، ولعله أوقع البيت الأبيض في إحراج الرد على مطالبات الإفصاح عن المشاهد التي رآها - والتي اتضح أنه لم يرَها -.
الانطلاق من هذه الكذبة وغيرها، لارتكاب إبادة جماعية وجرائم غير مسبوقة احتاج إلى مواصلة الكذب، الذي بدوره لا ينجح بقتل الصحفيين والتضييق عليهم، ولا بجعل المتحدثين والمسؤولين ووسائل الإعلام الرئيسة يرددون أي محفوظة تخرج من نتنياهو أو غالانت، ولا باستخدام كل الجرعات العاطفية الممكنة إلى جانب إسرائيل، وكل الشيطنة الممكنة للفلسطينيين في الأخبار والتقارير والخطابات، بل إلى أبعد من ذلك، مثل: ضبط مواقع التواصل الاجتماعي من خلال التقييد على الحسابات والمنشورات وكل ما له علاقة بالقضية الفلسطينية وفضح الجرائم الإسرائيلية، ومن خلال إخراج مقاطع فيديو وصور ذات فبركة رديئة لإدانة المقاومة، ومن خلال محاولات قمع الاحتجاجات في المدن الغربية ضد الحرب على غزّة، وصولًا إلى التضييق على الناشطين وكل المتعاطفين مع فلسطين، وقطع أرزاقهم، حتى العرب الذين كانوا أبطالًا ثم صاروا منبوذين لأنهم انتقدوا نتنياهو، مثل باتريك زكي، الذي منعوا ظهوره المنتظر على التلفزيون وألغوا فعالية إطلاق كتابه ومشاركته في مهرجان. هل يشعر غوبلز بالرضا عن نفسه الآن؟
لقد كان أحد الكتّاب في صحيفة وول ستريت جورنال يحاجج تصريحًا للملكة رانيا انتقدت فيه ازدواجية المعايير الغربية اتجاه المدنيين، ويقول إن حماس تستهدف قتل الأبرياء؛ لكن الجيش الإسرائيلي يقتل المدنيين بشكل عرضي "كنتيجة لجهوده للوصول إلى حماس". مثل هذه المحاججة كان تُكتب في الغرب، وهناك مسؤولون وصحفيون ومستوطنون بل وحاخامات في إسرائيل يدعون علنًا إلى استمرار الإبادة، ويرسلون النصوص الدينية علناً إلى الجيش لـ"إبادة كل الأعداء"، وشرعنة قتل المدنيين، حتى وصلت "الصراحة" بوزير التراث الإسرائيلي إلى إخراج ما في قلب الكثيرين من رغبات باستخدام السلاح النووي لإفناء غزة، واعترض عليه آخرون فقط لوجود محتجزين إسرائيليين في القطاع.
بطبيعة الحال، لم يعد سهلًا على وسائل الإعلام في زمن السوشال ميديا إخفاء مشاهد سحق أجساد الأطفال والنساء وعمليات الإعدام الميدانية للنازحين، واضطر بعضُها لاحقًا لنشر بعض الحقيقة تجنبًا لفضائح مكارثية أكبر. بعد أسبوع واحد من بدء حملة الإبادة على غزة، هتفَ أحد المتظاهرين المناهضين للحرب على غزة في الولايات المتحدة الأمريكية بوجه مراسلة فوكس نيوز التي ابتزّته بقصة قطع رؤوس الأطفال، مطالبًا إياها بإظهار الصور: "أنتِ كاذبة" - مع شتيمة جانبية.
الآن، تذكّر أيها القارئ إن بايدن تبنى قصة الأطفال الذين قُطعت رؤوسهم في مطلع المعركة، ثم افتح قوسًا وضع داخله كل ما ذُكر أعلاه، واغلق القوس، واقفز إلى ما بعد 17 تشرين الأول/أكتوبر - حين قصفت إسرائيل المستشفى المعمداني واجتاح الغضبُ العالمَ - ستجد بايدن يزور إسرائيل ويعلن براءتها من قصف المعمداني، متجاهلًا تحذيرات جيش الاحتلال للمسشتفى قبل قصفه، بل وحتى النتائج التي تتطلب تحقيقات.
الدعم الغربي بكل أنواعه والتضييق على المتعاطفين مع فلسطين وتبني الكذب الإسرائيلي ترافق مع هجمات دموية وتصريحات عنصرية ضد الفلسطينيين
استمر قصف المستشفيات والمنازل ومراكز الإيواء والنزوح بعد تبرئة بايدن لإسرائيل. أوقع طيران الاحتلال بعد أقل من أسبوعين أكثر من 400 بين شهيد وجريح بضربة واحدة خلال مجزرة ارتكبها بمنطقة جباليا. وأعلنت سلطات إسرائيل أنها استهدفت قياديًا في حماس، لكنها لم تتأكد من مقتله. ثم حمّل الجيش الإسرائيلي سكان جباليا مسؤولية تعقيد العملية العسكرية بسبب عدم نزوحهم إلى الجنوب. من يعبأ لهذا الجنون؟. بالمقابل، وقف متحدث حكومي فلسطيني في إحدى مستشفيات غزة، يحملُ طفلًا قُتِل بالقصف الإسرائيلي توًا، ليريه لكاميرات التلفزيون، ثم سلّم جسد الطفل لذويه، واستأنف الرد الجدلي والاستغراق بالأدلة لنفي الأكاذيب الصهيونية. إنه في هذا العالم يحتاج إلى الانشغال بالمزيد من الأدلة والمزيد من إعادة البديهيات، إذ لا يكفي وجه الملاك المزْرق دليلًا على همجية إسرائيل وضرورةً لوقف الإبادة. هكذا صنع خلط المحرمات بالكذب الأسود. خلط "غير معقول"، وقد يكون "غير مسبوق". لكنه صار واقعًا بكل ما يحمله من همجية وشمولية، وهو فضلٌ آخر لإسرائيل على العالم.
إن أفضال إسرائيل العظيمة على البشرية ليست بشرعنة وتكرار المحرّمات فحسب، بل بإعادة النظر في قضايا حساسة، وهو "غير معقول" و"غير مسبوق" بالتأكيد. إن استخدام القوة الجنونية في غزة جنبًا إلى جنب مع الكذب، دفع أمريكيين إلى تداول رسالة أرسلها زعيم تنظيم القاعدة سابقًا إسامة بن لادن في العام 2002 يشرح فيها للأمريكيين لماذا يُهاجم الولايات المتحدة ويقتل المدنيين، حتى اضطرت صحيفة "الغارديان" البريطانية لحذف نص الرسالة من موقعها بدعوى تتعلق بالسياق. لا يوجد ما يثير الإعجاب في بن لادن ورسالته وأفعاله، ولا يدعو أي عاقل للاقتداء بمن أضر بالعرب والمسلمين أكثر من غيرهم، فكيف تُعاد قراءة رسالته بعد عقدين من الزمن وفي بلاد تلقت منه ضربةً شنيعةً غير مسبوقة في التاريخ؟ - لا ندري إن كانت ستشرع الأجيال الجديدة في الغرب وخصوصًا الباحثين منهم، بإعادة النظر بالتاريخ الذي كتبته دولهم عن "الطغاة" و"الإرهابيين" و"النازيين" وكل ما يُصنف في خانة الأعداء ومحاور الشر. كما لا ندري إنْ كان الطريق في المستقبل سيكون معبّدًا للدول والمنظمات الغربية لتلقي على أجيالنا الجديدة محاضرات عن احترام حقوق الإنسان والقيم الحديثة والاتفاقيات الدولية، أم أنها ستضطر للتفرغ لشعوبها ومنع التدحرج خارج الطوق الفكري الغربي. إن العصف بكل شيء ليس بمصلحة أي إنسان يُريد عالمًا أفضل له ولأطفاله. ليس بمصلحتنا نحن الديمقراطيين في أرض العرب، الذين نصطف مع حقوق الإنسان والتحضّر والسلام والتمدّن والقيم الرفيعة جنبًا إلى جنب مع حق تقرير المصير والنهضة واستقلال دولنا وحرية شعوبنا.
لم تعد إسرائيل تبرر قصف المستشفيات، بينما يتفرّغ مسؤولون فلسطينيون إلى تبرئة المستشفيات من وجود حماس
إن الانشغال بالحدث - في زمانه ومكانه - يعيق النظر إلى مآلاته المستقبلية، المتوقعة جراء هذا التنكيل الجماعي. ما المنتظر من المركّب الذي اقترحناه: خلط المحرّمات بالكذب الأسود؟ يفرض ذلك التفكير مليًا بما فعلته وتفعله إسرائيل من استسهال ارتكاب الإبادة الجماعية (Genocide) في قطاع غزة باستخدام الأسلحة المحرّمة ضد شعب محاصر، بدعم وتشجيع من أنظمة ديمقراطية عريقة، بالتزامن مع قطع المياه ومنع الدواء والغذاء والوقود عن الناس، وغلق الأفواه التي تصرخ ألمًا من هذا الإجرام، والإصرار على قصف مستشفيات ومراكز النازحين، وإزالة مناطق من الوجود وشطب عائلات بالكامل جنبًا إلى جنب مع الكذب بدءًا من رئيس أكبر دولة حتى أصغر صحفي.
لقد عاد إلى الحاضر ما كنّا نقرأه من مصطلحات على إنه تاريخ، لكنه خليط من فظائع الجينوسايد وواقع الأبارتهايد ولوثة البروباغاندا، ونحن نرقب النتائج الكارثية لكل ذلك.
إن القيم التي وصلت إليها البشرية بعد حروب عالمية طاحنة تنهار اليوم على أرض غزة، وذلك بالطبع انتصار للتطرف وعداء الديمقراطية في كل مكان: هنا وهناك. فما المعايير التي يُمكن الاصطفاف وفقها عند الحروب والأزمات بعد أن شاهد العالم بالبث المباشر ما يحدث للأطفال والنساء والمستشفيات والمدارس مع دعم من العالم الأول؟ - إن هذا لا يحدث لأول مرة؛ لكنه مدان، ويجب أن يدان. أما الآن فهو يحظى بتأييد غربي.
ولكي لا نقع في فخ المبالغة الناجمة عن الشعور بالصدمة والعجز، ينبغي التذكير بأن تاريخ إسرائيل حافل بارتكاب المجازر وخرق القوانين وتجاهل الاتفاقيات وعدم احترام كل ما هو غير القوة، بالتزامن مع تصريحات بكائية أو هجومية. كانت تمسح قرى فلسطينية من الوجود قبل الذهاب لمفاوضة العرب حول السلام في فلسطين. وتقتل الأطفال وتشكو الإرهاب. وتنتهك القوانين والقرارات الدولية وتدعي محاربة التنظيمات الخارجة عن القانون. وتغتصب الأراضي وتهجّر السكان الأصليين وتتباكى من ظلم الآخرين. حتى وصلت إلى قطعِ الماء والدواء والكهرباء والوقود عن مليوني إنسان وقتلِ النازحين، ثم وصف الطرف الآخر بداعش الذي "تقاتله نيابة عن العالم" كما يقول نتنياهو مستحضرًا تصريحات بوش ومخلّفاته في العراق. هذا كان الفعل والخطاب الإسرائيلي الذي كرر ذاته مع كل انتهاك وجريمة وعدوان يرتكبه، بتكرار سردياته ومظلومياته وشيطنته للآخرين، وقد نجحت هذه الآلة المركّبة: (تفوّق على الأرض + تكرار الخطاب) في جعلنا نصارع البديهيات. الآن اختارت إسرائيل طريقتها المعتادة في هذه الحرب، لكن بمحرّمات أكبر وكذب أكثر افتضاحًا. على سبيل المثال: قطعت إسرائيل الاتصالات عن غزة وعزلتها عن العالم وزادت من محرقتها للناس، فور إصدار الأمم المتحدة قرارًا بالأغلبية لوقف العدوان على غزة بعد عشرين يومًا من اندلاع الحرب، واستمرت بتوبيخ الأمين العام أنطونيو غوتيريش بعد كل مناشدة إنسانية يطلقها. وفور انتهاء الخطاب الأول للأمين العام لحزب الله، الذي فُهِم منه عدم الدخول في حرب مفتوحة، نفّذت طائرات الاحتلال مجزرة بثلاثة مستشفيات وسيارات إسعاف في غزة، مع دعم لهذا السلوك من قبل الولايات المتحدة التي صرّحت فورًا بأن الدمار الذي سيحل بلبنان وشعبه إذا اتسع الصراع "لا يمكن تصوره". هو تأكيدٌ مستمر على سياسة القوة الغاشمة، التي لا تؤكد فقط على استخدام القوة كخيار أوحد، بل لا تدع للآخرين خيارًا آخر للتفاهم.
بين العراق وغزّة.. مقارنات
ظلّت إسرائيل تتفوق على نفسها بالأفعال والتصريحات الدموية والعنصرية والفوقية, بالتزامن مع الاندفاع الغربي في دعم إسرائيل ماديًا ومعنويًا، من الأنظمة الرئيسة والتابعة، الأساطيل العسكرية والمنظومات الأمنية، الدبلوماسية والإعلام الرئيسي والموازي وحتى المطاعم، مع دعوات تتذيل تصريحات الدعم بتقليل الخسائر المدنية، وحديث عن حتمية الخسائر الجانبية، وهو حديث محق، فإسرائيل ألقت صواريخ وقنابل ومتفجرات تعادل قنبتلين نوويتين على سكان قطاع غزة في أول ثلاثة أسابيع من الحرب، فكيف لا يُقتل الآلاف كخسائر جانبية؟
الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة تقارب الغارات الجوية الأمريكية ضد داعش لكن بمساحة أقل بـ125 مرة
مع ذلك، لننظر إلى الأرقام التالية في مقارنة مكثّفة مع الحرب على غزة، والحرب على تنظيم داعش في العراق في صيف العام 2014:
- نفذت القوات الأمريكية غارات جوية ضد تنظيم داعش فور إعلان سيطرته على الموصل، في 5 أشهر، عددها أكثر بقليل من عدد الغارات الجوية التي نفذتها إسرائيل على قطاع غزة في شهرين، بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
- المساحة التي سيطر عليها تنظيم داعش أثناء تنفيذ القوات الأمريكية للضربات الجوية المذكورة، أكبر بـ125 مرة من مساحة قطاع غزة.
حسنًا، ماذا عن "الخسائر الجانبية"؟
- عدد الضحايا المدنيين العراقيين الإجمالي في 6 سنوات وفق التحالف الدولي: 1400 تقريبًا.
- عدد الضحايا المدنيين الفلسطينيين في شهرين وفق الصحة الفلسطينية: 20 ألفًا تقريبًا.
إذن، فالخسائر الجانبية للقصف الأمريكي تمثل 7 بالمئة مما تصفه واشنطن خسائر جانبية للقصف الإسرائيلي. والمدنيون الفلسطينيون الذين قتلتهم إسرائيل في شهرين أكثر بـ14 مرة من المدنيين العراقيين الذي قتلتهم القوات الأمريكية في 6 أعوام.
قبل ختام هذا السرد لما هو "غير معقول"، نضيف مقارنة أخيرة مطلوبة في السياق، ولعلها مهمة لنا في العراق، وهي مختصرة لصعوبة انتقاء الكلمات المطلوبة تأدبًا مع مآسي أهل غزة: إن القوات الأميركية التي احتلت دولة العراق في العام 2003 وأسقطت النظام الحاكم بجيشه وأجهزته ودفاعاته العسكرية، خلال 20 يومًا، بعددٍ يقارب عدد القوات الإسرائيلية التي تهاجم قطاع غزّة المحاصر منذ قرابة 70 يومًا، قتالًا بريًا مباشرًا، عدا الأسابيع الثلاثة الأولى وأيام الهدنة المؤقتة، مع الأخذ بعين الاعتبار القدرات الفعلية للمقاومة في غزة من أسلحة رشاشة وعبوات بدائية وقاذفات RPG فقط في المواجهات المباشرة، مقابل 3 فرق عسكرية بدبابات وآليات وجرافات متطورة، ناهيك عن أسراب الطائرات وما تفعله.
إن هذه الحرب الهمجية على غزّة، وما رافقها عمومًا، ستمثل على الأرجح نقطة ارتكاز مفصلية حول المبادئ التي نشأ عليها النظام العالمي. إن هدية إسرائيل للعالم والمستقبل، هي إن ما كان غير مسبوق وغير معقول، بات واقعًا، وبالتالي سيكون معقولًا في أيامنا القادمة، وهي نتيجة ستفضي لعالمٍ أكثر إجرامًا وأقل أمانًا.