في شهر نيسان/أبريل من كل عام تتنافس وسائل الإعلام في بقاع العالم على إحصاء وكشف معلومات جديدة عن كذبة نيسان الشهيرة، فهذه مادة صحفية لا تموت ولا يقل عدد المهتمين بها إطلاقًا، لانطوائها على حس دعابة يتطرف أحيانًا ويتسبب بالذعر والخوف للناس مرات أخرى. لكن أعظم الأكاذيب في العالم لم تكن للدعابة، وإن تزامن بعضها في شهر نيسان، ككذبة جورج بوش الأبن، التي أطلقها في آذار/مارس، وأنهى تطبيقها في نيسان/أبريل، وخلفت وراءها عددًا لم تتفق جهات الإحصاء على تحديده بدقة، لكنه يتراوح عموما بين 100 ألف قتيل أو 700 ألف حتى عام 2010.
كانت كذبة بوش الابن ليست مثل الأكاذيب المتداولة في نيسان للمزاح.. إنها كذبة ثقيلة خلفت وراءها عدد من القتلى لم تتفق جهات الإحصاء على تحديده بدقة!
"أيها المواطنون: بدأت القوات الأمريكية وقوات التحالف في هذه الساعة المراحل الأولية للعمليات العسكرية لنزع أسلحة العراق، ولتحرير شعبه، ولحماية العالم من خطر قاتم محدق"، هكذا قال بوش الابن في 19 آذار/مارس عام 2003، مضيفًا "إلى جميع الرجال والنساء في القوات المسلحة الأمريكية المنتشرين الآن في الشرق الأوسط، أقول إن سلام العالم المضطرب وآمال شعب مقموع تعتمد الآن عليكم. وهذه الثقة هي في محلها تمامًا"، وكان هذا الخطاب هو الضوء الأخضر للبدء بـ"عملية حرية العراق"، كما أطلق عليها في ذلك الوقت.
اقرأ/ي أيضًا: غزو العراق.. تفتيت الهوية وإفقار الشعب في رحلة الكذب الأمريكي
انتهت العملية وسقط نظام صدام حسين وتصدرت صور الدبابات وعربات الهمفي الأمريكية صورة الشوارع في بغداد وسائل الإعلام المتنازعة حول صفة هذه القوات، إن كانت محررة أم محتلة، فيما دأبت وسائل أخرى للبحث عن حقيقة ما قالته الإدارة الأمريكية حول هذا النظام الذي يهدد العالم بأسره، سيما الولايات المتحدة وأصدقاؤها، النظام الذي قيل عنه إنه يمتلك الأسلحة البايولوجية والكيميائية والواقف على بعد خطوات قليلة من الأسلحة النووية، والذي لم يتمكن من ضرب هدف دولي واحد بصواريخه الباليستية، ولم يستهدف بأسلحته الكيميائية حاملات الطائرات التي ملأت مياه البحر المتوسط والخليج العربي، لمعرفة المانع من عدم استخدام هذه الأسلحة وبأي أيد ستقع بعد سقوط النظام وانتشار موجات السلب والنهب في البلاد والتي استهدف جزء منها مشاجب الأسلحة والقواعد العسكرية، إذ أصبحت على سبيل المثال، منشأة الصمود العسكرية المشتركة بتصنيع صواريخ صمود الباليستية ساحة للعب كرة القدم لصبيان قضاء أبو غريب.
في اليوم الأول من أيار/مايو، ظهر بوش واقفًا على سطح إحدى حاملات الطائرات، تحت يافطة عملاقة كتب عليها "المهمة أنجزت" ليعلن فيها نصر قواته في الحرب، وكان ذلك بعد مرور 21 يومًا على سقوط العاصمة بغداد بيد القوات الأميركية دون العثور على أي من أسلحة الدمار الشامل العراقية. مضت الأيام بعد ذلك وأكمل الجيش الأمريكي حربه التي كان إعلان بوش لنهايتها إحدى كذبات نيسان التي أطلقها الرئيس عام 2003. أكثر من 4200 جندي أمريكي قتلوا حتى عام 2010 بإحصاءات رسمية تشكك بها العديد من المصادر وأكثر من 30 ألف مصاب بينهم الآلاف من ذوي الإعاقات الدائمة إثر العبوات الناسفة التي كانت توضع على جانب الطريق وتنفجر كل يوم على الأرتال الأمريكية التائهة في بلد لا تعرف سبب وجودها فيه.
ألقت القوات الأميركية القبض على الرئيس الأسبق صدام حسين، ولم يكن بعد ثمة أي دليل على وجود أسلحة دمار شامل، حتى الثاني من تشرين الأول/أكتوبر 2003 حين قال رئيس المفتشين الأمريكيين في العراق إن "فريقه لم يجد أيًا من هذه الأسلحة، مطالبا بعد 4 أشهر من هذا الإعلان البدء بتحقيق مستقل حول فشل المخابرات الأمريكية بخصوص أسلحة صدام حسين. أول المستجوبين لصدام محلل الـ" سي آي أي" السابق جون نيكسون، قال بحسب ما أوردت صحيفة ذا إندبندنت البريطانية فإن صدام ومساعديه والمفتشين، وعلم بما لا يقبل الشك أن لا وجود لأسلحة دمار شامل في العراق، ولم يكن صدام حسين يسعى لتطوير أي من هذه الأسلحة، مضيفًا أنه يشعر بالعار لما حدث للعراق بعد الحرب.
من جانب آخر، وعد الرئيس بوش وجيشه ومسؤوليه، العراق بالحرية من نظام صدام حسين المستبد، والعيش الرغيد، نافيين صفة الغزو والاحتلال التي أطلقت عليهم بعد عام 2003. بعد 3 أسابيع على تسليم حكم العراق للجنرال جاي مونتغمري غارنر، تولى المهمة بدلًا عنه مدنيًا هو الدبلوماسي السابق وخبير إدارة الأزمات بول بريمر، والذي كان مسماه الوظيفي الرسمي "رئيس الإدارة المدنية للأشراف على إعمار العراق".
شكل بريمر مجلس حكم عراقي من زعماء المعارضة وشاركت بتشكيل لجنة كتابة الدستور العراقي الجديد، الذي أصبح تباعًا أس الفشل السياسي والإداري والأمني والاقتصادي في البلاد، بسبب التداخل والتناقض الكبير في مواده الدستورية، وضبابية مواد أخرى زعزعت من وحدة البلاد وكادت عدة مرات أن تقسمه إلى 3 دويلات طائفية وأثنية.
بريمر الذي أنهى مهمته في العراق تاركًا البلاد بيد حكومات ضعيفة وهشة، قاد فشلها إلى حرب أهلية فتكت بالعراقيين وقُتل إثرها عشرات الآلاف وغيرت من ديموغرافية العاصمة بعد حملات تهجير طائفية واسعة قامت بها جماعات مسلحة سنية وشيعية، تورط أيضًا بضياع مبالغ عراقية لا تقل عن نحو 9 مليارات دولار وتصل إلى 20 مليار دولار، مبالغ سرقت أو ضاعت بسبب سياسة مالية "خاطئة" كانت جزءًا من عمل الإدارة المدنية المشرفة على إعمار العراق، فيما بقيت الحكومات الاتحادية بعد انتهاء "إعمار اعراق" تحكُم بنظام الديمقراطية التوافقية الذي يختزل الحكم لقادة الطوائف ويوزعه بينهم، قاطعًا الطريق أمام أي حزب مستقل أو حركة سياسية علمانية أو مدنية بشكل مباشر أو غير مباشر من الوصول إلى دفة السلطة.
رئيس المفتشين الأمريكيين في العراق قال إن "فريقه لم يجد أيًا من أسلحة الدمار الشامل، مطالبًا بتحقيق مستقل حول فشل " المخابرات الأمريكية" بخصوص العثور على الأسلحة!
المثير بكذبات بوش التي أطلقت خلال عام 2003، إنها الأفضل في التاريخ، كونها لا تزال تمثل حقيقة لجمهور واسع في العراق والعالم، يعتقدون أن التاسع من نيسان/أبريل هو ذكرى تحرير العراق، وأن جورج بوش الابن، الذي سبق وأعلن قبيل الحرب على العراق بعامين أنه سيطلق "حربًا صليبية" ستكون طويلة، هو المحرر ورسول الديمقراطية إلى بغداد، فيحتفون به سنويًا ويقدمون له رسائل الشكر والامتنان لقتله أو تسببه بمقتل نحو مليون عراقي وتأسيسه لـ 16 عامًا من الخراب، وسرقة مليارات الدولارات من أموال نفط العراق وشعبه، إضافة إلى تفكيك الدولة ومؤسساتها وإحالتها إلى ممرّات عبور لسيطرة الهويات الفرعية عليها في ظل نظام "المحاصصة".
اقرأ/ي أيضًا:
9 حقائق هامة ينبغي ألا ننساها عن الغزو الأمريكي للعراق
مركز أبحاث الجيش الأمريكي: إيران هي المنتصر الوحيد في حرب العراق!