لا تستقيم الحرية في بلد يجعل منها مشكلة اجتماعية وتهديدًا وجوديًا لقيمه الثقافية. خصوصًا إذا لم يعتبرها بندًا متفقًا عليه في "الشريعة الاجتماعية المقدسة"، ويجري بالضد من ثقافة المبايعة والولاء اللا مشروط.
إن الحرية لا تُعد ضرورة في بلد يرادفها بالتحلل والإباحية. لذلك، كل محاولة للانفتاح على ممكنات جديدة لمعنى الحرية ستجابه بالقمع والتنكيل. وأن أكثر ما تخافه المجتمعات التقليدية هو تعرض إرثها القيمي للخطر الوشيك.لا توجد مشكلة عند رجل القبيلة أو المذهب بسلطة مستبدة وإنما تكمن المشكلة في تعميق مفهوم الحرية
شعار المجتمع التقليدي وسلطته المستبدة: كل ما هو ضروري يشكل الخير الأسمى، والديمقراطية والحرية ليست من الضرورات، في حين تعتبر المبايعة من الضروريات وإن لم نصرّح بها بشكل مباشر. فلا حرية مع المبايعة، والاثنان ضدان لا يجتمعان.
والضرورة هنا، في مجتمع تقليدي، هي النفي الكلي للحرية بالأساس. أي، إن الإكراه هو المفهوم المركزي الذي يحدد كل عمليات "التفكير" والسلوك في هذا "المجتمع". الإكراه الذي يسطّر أولوياته على هذا النحو: حرمة انتقاد الرموز القبلية والمذهبية تتقدم على حرمة سرقة المال العام، وهذا الأخير يمكن التسامح معه، في حين يبقى الأول خطرًا وشيكًا، يعرض وجدان المجتمع التقليدي لجرح عميق، وسيكون ثمنه النبذ والإقصاء. فلا يحق لأقلية "بائسة" تتحكم بسير العلاقات الاجتماعية، القائمة على القرابة والمبايعة والولاء اللا مشروطَين، باسم الحرية. فهذه الأخيرة ليست ورادة، لا فكرًا ولا سلوكًا في ثقافة المبايعة.وإذا كانت الحرية نفي الإكراه في المجتمعات الحديثة، ففي المجتمع التقليدي يغدو الإكراه هو النواة الصلبة والسمة الأساسية، والمنطلق الشرعي لكل أشكال الاستبداد، والنفي الكلي للحرية وما يتفرّع منها من قوانين تضمن كرامة الإنسان. والمتشبثون بالنظام الديمقراطي، الذي أذعنوا له، لأنّه يضمن الأغلبية الطائفية، فيحقق بالتالي مفهوم البيعة من جهة، والذي تم فرضه من قبل الاحتلال من جهة أخرى، يتحدثون عن كل الاستحقاقات التي تضمنها الديمقراطية، إلا استحقاق الحرية فيبقى أمرًا غامضًا ويقع في أقصى الهامش، طالما تعتبر الحرية رديفًا للإباحية، ونقيضًا المبايعة.
الإكراه هو البنية الأساسية التي تقوم عليها مثل هذه المجتمعات لضمان التحيزات والتفضيلات التي يتشبث بها أفرادها. وتتواشج عناصر هذه البنية عن طريق الانسجام الحاصل بين المذهب و العشيرة في المجتمع العراقي، ويشكلان حلفًا غير معلن ضد مختلف أشكال الحرية.يمكن لنزاع عشائري لقضية تافهة، أن يشعل فتيل حرب دامية، وتستخدم فيه الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، وتبقى الحكومة عاجزة عن تطبيق القانون ومحاسبة المتورطين، لكنها ستعتبر عملية القبض على شباب يتاجرون بالكحول في محافظات الوسط والجنوب، أولوية قصوى، تأخذ حيزًا واسعًا في وسائل الإعلام.
وفي الوقت الذي تعد فيه الحرية هي المجال الذي يتحرك من خلاله المواطنون في الدولة الحديثة، ويمارسون مختلف شؤونهم التي يتم ضبط إيقاعها عن طريق القانون، يتجه أفراد المجتمع التقليدي بالضد من ذلك، كون الحرية تشكل عائقًا أمام قائمة الإكراهات التي يشرعنها رموز المجتمع وقادته؛ المذهب له إكراهاته الخاصة، والعشيرة لها إكراهاتها الخاصة، وكلاهما يشكلان أرضية خصبة لكل أشكال الاستبداد. وفي النتيجة يتفق الاثنان، بطريقة غير مباشرة، حول اعتبار المبايعة جوهر العمل السياسي.لا توجد مشكلة عند رجل القبيلة أو المذهب بسلطة مستبدة، وإنما تكمن المشكلة في تعميق مفهوم الحرية، حتى لو كانت حرية تفكير، فالحرية هي مشكلة اجتماعية، كما وضحت في مقالة سابقة "الحرية بوصفها مشكلة اجتماعية".
ولا يجوز التعدي على الأصول المعمول بها، والمتفق عليها بين أفراد المجتمع التقليدي ورموزه. لأنها ستعرض عقد البيعة للخطر، وستطيح بمكتسبات الحرس القديم. إن الحرية تتنافى مع سلسلة الإكراهات التي يتبنّاها المجتمع التقليدي. وطالما لا تتوفر حوافز مغرية لنقل المجتمع من حالته التقليدية إلى حالة الانفتاح على عالم الحداثة، فسيرتد هذا المجتمع على عقبيه ويتمسك بنقاطه المرجعية، وقد رأينا كيف هرعت الناس إلى هوياتها الفرعية حين انهارت سلطة البعث وانهارت معها مؤسسات الدولة.
في حالات الخطر الوشيك، وحينما تنهار الدولة لا تبقى سوى الهويات المرجعية بوصفها النقطة الآمنة التي توفر الحماية الكاملة لأفرادها. فلا غرابة مما نشاهده في العراق من شيوع حالة الولاءات الفرعية، والبيعات السياسية، التي تلبس لبوس الديمقراطية، عند الناس، واعتبار المذهب والعشيرة أولوية قصوى عندهم. ذلك أن النموذج البديل، وهو الدولة، لم يرَ النور بعد. ولا توجد حتى الآن بوادر جادة وحقيقية لإعادة بناء مؤسسات الدولة.
وفي بنية اجتماعية كهذه يصعب انبثاق حركات ديمقراطية، فستكون حاضنتها الشعبية رخوة وموسمية ومتقلبة يصعب الاعتماد عليها، بالإضافة إلى قوة الإكراه التي ستمارس ضدها، وتنتهي برِدّة متوقعة من قبل الجمهور وقسوة فظيعة من قبل السلطة الحاكمة، وإحباط، وشيوع حالة اللا جدوى، والعدمية، كالذي نشاهده في المجتمع العراقي هذه الأيام، ومن ثم تتناثر هذه الكتلة الجماهيرية، وتترهل هذه التنظيمات الحزبية الناشئة، وترجع الناس بخفي حنين إلى هوياتها الفرعية وشريعتها الاجتماعية المقدسة، وينتصر الإكراه ويعلن المجتمع التقليدي فوزه الساحق.إن الأوهام التي تضخها مواقع التواصل الاجتماعي جعلت الذات العراقية تسبح في بحر واسع من الاغتراب، وبدا كما لو أن "الرأي العام" متأهب تمامًا لوثبة سياسية واسعة النطاق تضعف من هيمنة السلطة الحاكمة. بيد أن الوقائع الملموسة له رأي آخر.
ليست المشكلة في عدم وجود أفراد يتوقون للحرية، فهؤلاء متوفرون في كل مجتمع أيًا كانت بنيته الثقافية، بل المشكلة في الحاضنة الشعبية المتقلبة، التي لا تفسح المجال، ولا تتمتع بصبر وأناة لقطف الثمار، ولا توجد لديها رغبة حقيقة بالقطيعة مع إرثها التقليدي القائم على القسوة والاستبداد. فبالتالي تقع التنظيمات الناشئة في ورطة كبيرة أسميتها في ما مضى، بورطة التنظيمات الناشئة في مجتمع تقليدي.كيف يمكن استيعاب نتيجة الانتخابات الأخيرة؛ حيث تتسلط أقلية وتفرض صوتها على الأغلبية، ومن ثم يحار المرء تحت أي تصنيف يضع هذه "العملية الديمقراطية" التي جرت بمدخلات انتخاب ديمقراطية ومخرجات يصعب تصنيفها؛ لا هي ديمقراطية من وجه، ولا هي انقلاب مباشر من وجه آخر. لكنها جرت بشكل طبيعي أعنت له شرائح اجتماعية واسعة.
اللهم إلا موجة التهكم والسخرية التي انطلقت في مواقع التواصل ولا زالت مستمرة لتفريغ الشحنات وتمضية أوقات الفراغ الطويلة، لكنّها لا تشكّل أي تأثير يُذكَر. التفسير الوحيد لهذا الإذعان هو قابلية المجتمع التقليدي لاستيعاب مثل هذه النتائج. مجتمع يميل معظم أفراده لتخويل نخبه السياسية على أساس الولاء والمبايعة، كل شيء فيها موجود إلا العمل الديمقراطي. وبالتالي لم يغير أحزابه، التي جاءت من الخارج، حتى هذه اللحظة. ولا تهمه الديمقراطية أو الانقلاب عليها بقدر ما تهمه ديمومة أحزابه بالسلطة حتى وإن لم تحقق له الحد الأدنى من المنافع. إنه لا ينتخب على أساس البرنامج بقدر ما يجدد البيعة لقادته.
من هذه الناحية، يمكن أن نفسر سكوت الجمهور الصدري وتفريطه باستحقاقاته الانتخابية بواسطة مفهوم الولاء والمبايعة و الإكراه. بيد أنه إكراه محبب؛ إكراه يجري باختيار الجمهور، ويترجمه على شكل مبايعة وتجديد للعهد. جمهور لا يضع الحرية ضمن أولوياته وإنما يتسيد عنصر الولاء، والحب الوجداني لرموزه الروحيين، وتجديد البيعة لهم في كل حين.
الإكراه الذي نتحدث عنه لا يعني إكراه من قبل سلطة مستبدة تمارسه رغمًا عن أنف المجتمع، بل ثمة رباط روحي و"عقد اجتماعي"، وتجديد بيعة غير مباشر بين هذه السلطة وأغلب أتباعها، باستثناء "الأقلية المارقة" التي خرج عن المعادلة كليًا. الاستبداد الوحيد الذي تعترف به هذه الجموع هو حين يكون المستبد مخالفًا لتوجهاتها الطائفية؛ فقد كان دكتاتور البعث، بكل قسوته وجبروته، طاغية وظالمًا، كونه لا ينتمي إلى نفس التوجه الطائفي، وإلا بماذا نفسر سكوت الناخبين عن هذا الفساد المستشري الذي فاق كل الأنظمة السياسية السابقة؟ فحتى الظلم والطغيان يخضع لانتقائية دقيقة، تتحدد شروطها ضمن ثقافة المبايعة التي تميل كفتها إلى تعميق روح الطائفية.وأيًا كانت النتائج فالتفسير الوحيد لهذه الفوضى هو بنية المجتمع التقليدي القابلة للإكراه، والقائمة على المبايعة، والطاردة، بالتالي، لكل أشكال الحرية. فالإكراه يفتح إمكانيات واسعة لمختلف أشكال التدمير والفساد، والحرية تجري بالضد من ذلك تمامًا. أقلها أنها تمنحنا فضيلة التفكير الناقد.
ليست ثمة غرابة من ميول جمهور الناخبين إلى تفضيلات لا تصب في مصالحهم، بقدر ما تضمن ديمومة رموزهم وضمان هيمنتهم السياسية. وهذه سمة أساسية في ثقافة المبايعة، لذلك من الاستحالة بمكان أن ننتظر مثل هذا الجمهور أن يقوم بمحاسبة ممثليه السياسيين، وليست ثمة غرابة أيضًا من شيوع أساطير مفادها: تتصدر أولوية بقاء الأحزاب الشيعية في الحكم على كل الأولويات، حتى لو كانت هذه الأحزاب فاسدة للنخاع. وقد شاعت مقولة في المجتمع العراقي "المهم أن يكون الحاكم شيعيًا".يمكن أن نفسر سكوت الجمهور الصدري وتفريطه باستحقاقاته الانتخابية بواسطة مفهوم الولاء والمبايعة و الإكراه
المهم أن يبقى صوت الشيعة عاليًا، ونحن نعلم جيدًا أن التشيع في العراق لم يحصد من هذه الثروات المُبَدَدَة شيئًا، ومحافظات الوسط والجنوب، فضلًا عن قاطع الرصافة، وبالأخص شرق القناة، شاهد على ذلك. المهم كل المهم أن نجدد الولاء والبيعة، ذلك أن الانتخابات "بدعة" حداثية تجرح وجداننا الطائفي وتصيبه بمقتل، ومن الممكن، لا سمح الله، أن تؤسس للحرية، وهذا الأمر مرفوضًا بالمطلق من مجتمع المبايعة.