تعلمنا الفلسفة كيفية طرح الأسئلة الإشكالية، وتنقل الفكر الإنساني إلى إمكانيات جديدة للفهم. فيتحوّل السؤال إلى إشكاليات كبرى تتفرّع منها عدة مشكلات؛ فسؤال الوجود فتح شهية الفلاسفة منذ القدم، فراحوا يحفرون في خبايا العقل عن إمكانيات جديدة للفكر والحياة وفك اللغز الأعظم "الوجود".
الأسئلة التي تثير الإشكاليات المهمة في العراق هي الأسئلة التي تحفر في تخوم المعضلة الكبرى وليس التي تشكّل انحرافًا حادًا نحو الهامش وتعكس حالة الانكسار للعراقيين
وهذا مثال تاريخي بسيط عن أهمية السؤال، خصوصًا إذا كان السؤال مرتبطًا بمعضلاتنا الراهنة، والأهم من ذلك كله، حينما يبحث السؤال عن إشكالية جوهرية ومؤرقة. فالفارق كبير بين سؤال الوجود كإشكالية أرقت الفكر البشري، وبين السؤال، على سبيل المثال، عن العرق الأكثر تطورًا، الأول يفتح أفقًا جديدًا للتفكير، والثاني هامشي، يسقطنا في اليومي والاستهلاكي ويعزّز حالة التفكير الرغبوي الذي يغازل شهوات الأنا ورغباتها الجامحة.
اقرأ/ي أيضًا: عراق "المحاصصة" الطائفية وسلطة ضد الدولة
والسؤال الجدير بالأهمية هنا، أي الأسئلة تمثل إشكالية حقيقية في الراهن العراقي: السؤال من النمط الأول أم الثاني؟. بعبارة أخرى، أي الأسئلة التي تثير إشكالية مهمّة في الراهن العراقي، وتمثل الينبوع الذي تتفرع منه باقي المشكلات. السؤال الذي يحفر في تخوم المعضلة الكبرى، أم السؤال الذي يشكّل انحرافًا حادًا تجاه الهامش ويشتبك فيه الانطباعي والرغبوي ويعكس حالة الانكسار الداخلي للفرد العراقي؟.
فلنطرح سؤالًا جزئيًا، إن صح التعبير، قبل الانتقال للسؤال الإشكالي الأبرز، وهو كالتالي: لماذا تنحرف بوصلة التفكير في تحليل المشهد العراقي إلى محاكمة النتائج وإهمال المقدمات والجذور، من قبيل الإدانات الصريحة والضمنية للثقافة العراقية على أنها ثقافة عنف؟. أليس الجدير بنا السؤال والبحث عن العناصر المكوّنة لبنية العنف وتفكيكها لفهم اللغز؟!.هل حقًا أن العنف يستحيل إلى هوية ثقافية؟، الأمر الذي عزّز حالة الشعور بالدونية لدى الفرد العراقي بل العربي، على وجه العموم، تجاه ثقافته. هل حقًا أننا عثرنا على السؤال الإشكالي؟.
في كثير من الأحيان نسقط جزعنا الشخصي ونؤطره على شكل برهان نظري، على حد تعبير أنجلز، إذ يتحوّل التفكير من هموم حقيقية تحاول العثور على ممكنات جديدة في الفكر والحياة إلى رغبات جامحة وانطباعات شخصية وتذمّر صبياني. ومن هنا نرى مقدار النفور الشديد الذي تبديه بعض الفئات الاجتماعية تجاه المفكر الواقعي، لأنها تقاوم الأسئلة الإشكالية الراهنة وتبدي شراسة ملحوظة إلى حرف مسار الأحداث والانشغال بالهوامش، ذلك أن الإطروحات الواقعية تتعب الأذهان قبل الأجساد!.
أكبر ما يروّع السلطة السياسية المستبدة هو الأسئلة الواقعية، لذا تحاول، بكفاح، أن ترسم صورة الواقع وتطبعه على رغباتها الخاصّة من خلال جيش من كسبتها عبر تداولهم قضايا لا صلة لها بهمومنا الجوهرية. يمكنهم أن يتكلموا عن آخر عمليات التجميل في الدول المجاورة، وإنشاء مراكز تجارية وغيرها، كل هذا هروبًا من الأسئلة الإشكالية والتي تنبع من صميم همومنا وتراجعنا.
تحاول بعض الفئات الاجتماعية المستفيدة أن توهمنا إن الصراع هو غياب حقوق الإنسان وحقوق المرأة وغيرهما، لكن السؤال المركزي يتبخر في أدبيات هذه الجماعات وهو سؤال الدولة ومؤسساتها التعليمية والقضائية والعسكرية والاقتصادية: أين تذهب الثروة، كيف يمكن التوزيع العادل والمنصف لهذه الثروة، ماذا نفعل بالفقراء، بعبارة أخرى، إلى أي كوكب نرميهم مثلًا؟! كيف لبلدٍ أن يرى النور وهو يتخذ من المحاصصة شكلًا ديمقراطيًا؟ ما مصير "شعب" يعيش حالة ما قبل الدولة؟ كيف يمكن لمجتمع أن يحقّق حالة التضامن وهو يعيش حالة الاستلاب بكل تفاصيلها؟ وقد أجمعت نخبه السياسية على تحالفات تكتيكية شعارها كالتالي "أضرب وأهرب!"، هل يمكن أن ينجح بناء دولة في ظل انقسام مجتمعي حاد يتخذ من الطائفة والقبيلة نقطة انطلاق لكل فعالياته السياسية وتكون الجماعات الفرعية صاحبة القرار السياسي؟ لماذا تبدو محافظات العراق مقطعة الأوصال ويجري تقسيمها الجغرافي والسكاني على أساس طائفي؟
هذه الأسئلة مسكوت عنها، وبدلًا من تحريكها في الفضاء العام، كونها أسئلة إشكالية، يجري الكلام عن قضايا هامشية لا علاقة لها بمعاناتنا الحقيقية.
أكبر ما يروّع السلطة السياسية المستبدة هو الأسئلة الواقعية لذا تحاول بكفاح أن ترسم صورة الواقع وتطبعه على رغباتها الخاصّة
إن أي قضية، في وضع العراق الراهن، مالم تستحضر سؤال الدولة وتضعه كإشكالية قصوى، "باعتبارها مشاكل متفرعة من سؤال الدولة"، فمعنى هذا أن القضايا الإشكالية لا تعنينا؛ فما يعنينا هو جزعنا الشخصي وأحلامنا الهامشية، فنحاول تغليفها بأشكال تعبيرية ملطّفة ونضفي عليها صفة "الهم الأقصى". مرة أخرى: ما إن يطل علينا هذا الوحش "الدولة"، فسوف نرى مشاكلنا الحقيقية تتدفق كالموج الهادر، وفي حينها لا يمكن لأي سلطة مستبدة إيقاف المد، لأن السؤال الإشكالي عاود الظهور، وهو سؤال الدولة الذي ضاع في غياهب النسيان.
اقرأ/ي أيضًا: