"المثقفون[العراقيون] سعوا إلى اختلاق طبقة عاملة لا وجود لها، طبقة الجماهير في الظاهر، وعبّأوها بالحقد الطبقي". فوزي كريم، تهافت الستينيين.
"المفارقة تحصل هنا بين الحياة البائسة وبين الألفاظ التي لا تفصح عنها، الألفاظ الوهمية المستعارة ذات البريق. فهذه العزلة بين الكاتب وبين ما يكتب، بين الإنسان وبين "الأدب" هي واحدة من أكثر العزلات وحشة وظلامًا". فوزي كريم، ثياب الإمبراطور.
إن مجموع ما نقرأه ونسمعه ونراه حول التغيير لا يترجم بالضرورة عطش الناس إلى هذه المضامين بقدر ما تبدو شعارات، بعمومها، خالية من أي دافع جدي. بعبارة أخرى، لا مطابقة حقيقية بين الشعار والممارسة وإنما تترجم لنا حالة من التناشز المعرفي الحاد. ففي نهاية المطاف قد تترجم لنا هذه الصرخات رغبة أنانية تلهث وراء التفوق الموهوم. والدليل أننا لم نفلح في لمّ شملنا واكتَسَحَنا المد العقائدي الصلب لأنه يمثل روح المجتمع العراقي. لم نفلح في قراءة المجتمع قراءة موضوعية، ربما كنّا نتصور إمكانية إسقاط الأجواء الباريسية على هذا المجتمع الصعب المراس. ما علينا سوى التفوّه بالكلمات البرّاقة فنحصل فورًا على بطاقة اليانصيب التي تميّزنا عن "القطيع".
المجتمع الطقوسي يستثمر الديمقراطية كآلية للحفاظ على قدسية رموزه المذهبية والقبلية
إن زخم الألفاظ المستهلكة في هذا الشأن لا تفصح عن ميول عقلانية لمفهوم التغيير. إنه سيل من تلفيق الذرائع للذات لتبدو متنصلة عن مسؤوليتها تجاه الصالح العام. ما عليك سوى لوم المجتمع، أنها الكلمة الساحرة التي تتوفر على ضمانات كافية لتبدو الذات استثناء من كل هذا الخراب. وفي التحليل الأخير نعثر على أهواء عنيفة تحاول اتخاذ التميز كشكلٍ تعبيريٍ مٌلَطَّفَ يضفي عليها نوعًا من التسويغ العقلاني. وتحولت الشتائم المنحطة تجاه الشعب العراقي كونه "الشعب الجاهل" إلى مفردات مسوغة وبات يتلاقفها المغفلون كعلامة بارزة على تميزهم!
النقد الاجتماعي ضروري بالتأكيد. والمجتمع العراقي ربما من أكثر المجتمعات بحاجة إلى هذا النقد الاجتماعي. غير أن "الناقدين"، الذين أسهمت مواقع التواصل في تسويغ تفاهاتهم "النقدية"، أسقطوا ما في المجتمعات والنظم السياسية المتقدمة على واقع صعب المراس، ومجتمع ينظر إلى الحرية والديمقراطية كمحرّم إلا إذا صبّت في صالح الطائفة (سواء كانت مذهب ديني أو قبيلة). في الوهلة الأولى سننظر إلى عموم المجتمع العراقي- الطقوسي منه بالذات- على أنه مجتمع متواطئ مع الزمرة السياسية الحاكمة، لا تهمه سوى كرنفالاته الطقوسية التي يغلب عليها الطابع الشعبي. أما سؤال الحرية والديمقراطية والدولة فهي لا تقع ضمن سلم أولوياته. أولوياته تنطلق من هنا وبالذات: الحفاظ على التسلسل الهرمي لقياداته القبلية والمذهبية، وتجديد الولاء لهذه القيادات عبر فعاليات سياسية تترجمها الانتخابات. بمعنى أن هذا المجتمع الطقوسي يستثمر الديمقراطية كآلية للحفاظ على قدسية رموزه المذهبية والقبلية. ليست لديه مشكلة في طبيعة الحزب السياسي الذي يمثله بالانتخابات شريطة أن يكون هذا الحزب يعكس أشواقه المذهبية والقبلية.
ضمن هذا السياق يغدو النقد مقبولًا ومسوغًا، لكن بأي معنى؟ إن المجتمع العراقي هو مجتمع تقليدي، مجتمع ليس له صلة لا من قريب ولا من بعيد لا بالحداثة ولا بما بعد الحداثة! بخلاف ذلك ستكون الأحلام باريسية والمجتمع عراقي! ماذا يعني هذا؟ هل يعني ترك الحبل على الغارب والاستسلام المطلق لمخرجات المجتمع التقليدي والقبول بكل هذا الخراب؟ أبدًا، لكن حين تتوفر الرغبة الصادقة بالتغيير ونكف عن اللعن والسباب وكيل التهم والشتائم للمجتمع كونه مجتمعًا لا يفهم أفكارنا "التقدمية"، فحين ذاك نكون قد وقفنا على مكمن الجرح. أي شخصنا العلة الحقيقية في تلك الممانعة التي يبديها المجتمع العراقي تجاه كل عملية التغيير. لكن تشخيص المرض دون توفر الأطباء اللازمين ودون توفر العلاج اللازم فسيتحول هذا المرض إلى طاعون ويفرز لنا ذوات مريضة ومأزومة لا تجيد سوى لغة الشتائم واتهام المجتمع بعدم فهم أفكارها.
وحين نفهم بنية المجتمع التقليدي بالتأكيد، وهذا ما ينبغي أن يكون، توفر النخب اللازمة لحل هذه المعضلة. لكن النخب، إن وجدت، صوتها غير مسموع لغلبة الطابع الشعبوي من جهة ورخاوة هذه النخب ولا أباليتها من جهة أخرى. فالتغيير عملية شاقة وطويلة، وتغدو منفّرة في أحيان كثيرة، لا يمكن حسمها بشتم المجتمع ولا التنطع بكومة مفاهيم تبدو غريبة وعصية عل التقبل في مجتمع يعاني من فقدان الكوادر والنخب والمثقفين المهتمين بالصالح العام. وعلينا أن نفهم، أن التغيير لا يأتي إلا بقرار سياسي؛ نخبة سياسية تشارك في الانتخابات وتقضي على حالة التشرذم الحاصلة لدينا الآن، لا أن تقود "المعارضة" من داخل معتقل "فيسبوك". بخلاف ذلك لا تقدم لنا هذه الصرخات سوى ذوات مأزومة لا تختلف عن ثقافة المجتمع التقليدي وإن حاولت تقمّص دور المثقف الحداثي.