يصعب علينا الفصل بين المجتمع والسياسة، فعلى الأرجح سيكون الفصل نظريًا لا يلامس حقائق التجربة التاريخية المٌعاشة. ولا أعرف إن كان ثّمة حقائق موضوعية تشير إلى مبدأ الاستحقاق الذي يقرره كل مجتمع ما حول نظام الحكم الذي المناسب له. ما أفهمه أن النخبة السياسية تشكل منعطفًا حاسمًا في التحولات التاريخية الكبرى، وهي التي تؤسس لاحقًا شروط التقدم. وما أفهمه أيضًا أن العلاقة بين المجتمع والسياسية علاقة اعتمادية تشكّل أسس السلطة الحاكمة. فأيًا كان الأمر، ستكون السلطة هي الداء الكبرى أو الدواء اعتمادًا على ما تقدمه للمجتمع. وفي تركيبة اجتماعية مُعقدة مثل العراق ستكون مخاطر السلطة السياسية مضاعفة، لأنها ستعتمد على سلطة اجتماعية طالما أدارت ظهرها للعمل المؤسساتي، وأعلنت ولائها المطلق للجانب الشخصي، فستكون التحديات جسيمة إذا جاءت السلطة السياسية نسخة مطابقة للسلطة الاجتماعية.
لقد انعكس تضخّم السلطة في العراق على مجمل نشاطاتنا السياسية والاجتماعية، فالناس على دين ملوكهم كما يقولون
قد يخرج المتتبع لتاريخ العراق الحديث بخلاصة مفادها: إن السمة الغالبة على سلوكنا السياسي هي المبالغة في تقدير الذات التي تغذيها روح الاستبداد والميل إلى الفردية وكراهية المؤسسة. ثم ينتهي الحال بمسيرة ختامية حافلة بالفشل والخسائر المروّعة، وتلقي بظِلالها على الأجيال السابقة، وتكرّر أخطاء السالفين بحرفية عالية. ماضينا وحاضرنا واحد لدرجة أن حاضرنا السياسي هو، بشكل وبآخر، نسخة طبق الأصل لماضينا مع بعض التعديلات المُنَمَّقّة. يبدو هذا الحكم قطعيًا وقاسيًا. لكن في بلد مثل العراق يتوارث أهله الاستبداد جيلًا بعد جيل، ويقدمون، في كل مرة، الجانب الشخصي على الجانب المؤسساتي، فمن الطبيعي أن ينتج لنا ثقافة اجتماعية وسياسية تجيد التآمر على نفسها قبل أن يتآمر عليها الغير.
اقرأ/ي أيضًا: وسائل الاحتجاج ضد النظام.. أضعف الإيمان أحوجه
في أحيان كثيرة يغدو الواقع كما الإعصار الهائج تصعب مقاومته أو تجنّب خطره نظرًا للتحديات الجسيمة التي يختبرها الفرد في هذه الظروف القاسية، وخصوصًا في بلد صعب المراس مثل العراق حافل بالأحداث السياسية التي تكرر نفسها مع كل سلطة سياسية. وأعني بالتكرار هنا: الانقلاب، والثأر، وتضخم السلطة على حساب الدولة، والاستبداد، والزبائنية، والطائفية، ورأسمالية النخبة الحاكمة. فمن دون أدنى شك ستكون أنماط تفكيرنا وسلوكياتنا لا تختلف عن السابقين. حيث ظلت هذه البنية فاعلة في أدبياتنا السياسية دون أن يطرأ عليها تغيير يُذكَر، وهي في تضخّم مطرد، وكل ما اكتملت حضانتها (الفيروسية!) تنفجر بشكل انشطاري وتنسف معها المؤسسات الاجتماعية والسياسية، وسرعان ما تكرر السلطة نفسها بأشكال مختلفة ويبقى المضمون واحد. ولكل جيل نصيب من هذا الخراب المستمر.
لنأخذ مثالًا واحدًا، وهو هذه المعضلة: تضخم السلطة على حساب الدولة، وعلمنة الدولة من جهة الدين، وتطييفها من جهة المذهب، بحسب الباحث العراقي جعفر الحسيني. بتعبير آخر، تكون الدولة عَلمانية لو تعلّق الأمر بالدين، لكنها ستكشّر عن أنيابها الطائفية لو تعلّق الأمر بالمذهب. وهذه المرارة لا زالت هي المذاق المعتاد الذي رافق الدولة العراقية منذ تأسيسها وحتى هذه اللحظة. لقد انعكس تضخّم السلطة على مجمل نشاطاتنا السياسية والاجتماعية، فالناس على دين ملوكهم كما يقولون؛ ذلك أن السلطة الاجتماعية والسياسية كلتاهما ترتبطان بحكم الاعتماد على كل منهما فيشكلان ظاهرة السلطة التي عايشناها عدة عقود، فضلًا عن الطائفية التي رجعت إلى حضنها الأثير، وهو السياسة بعد أن أخذت حصتها الاجتماعية بمزيد من الضحايا الأبرياء. وهذه المرة طائفية سياسية بشكل مباشر وصريح (منّا أمير ومنكم أمير) قائم على الحصص والمغانم والنهب المُنظم. ومن الطريف أن نهب ثروات العراق يتخذ سمة تضامنية عالية من جميع النخب السياسية بمختلف جذورها المذهبية والقومية.
على أي حال، فلنتأمل ظاهرة اجتماعية، هذه المرّة، شائعة بين مختلف العراقيين، يمكن اعتبارها مُدّوَّنَة تاريخية مهمة يتناقلها العراقيون شفاهيًا، وتمثل البنية التحتية للسلطة الاجتماعية والسياسية، وهي أننا لم نروض أنفسنا حتى هذه اللحظة على تبادل وجهات النظر؛ فالعراك، والتسقيط، والحساسيات الشخصية، وروح الانقلاب، هي السمة الغالبة على شخصية الفرد العراقي بشكل عام. وما لم ننظر إلى هذه المعاناة بشكل جدّي سيبقى المضمون واحد وإن اختلفت الأشكال التعبيرية. لا زالت ذهنية الشيخ مكوّنًا رئيسيًا في بنية التفكير العراقي على مستوى التفكير والسلوك؛ أنها سلطة التفكير التي لا تعلو عليها سلطة! وهذا ما أعنيه بالضبط بالاعتماد المتبادل بين السلطة الاجتماعية والسياسية، أنها تفرز لنا نوع السلوك السياسي ونظام الحكم اللائق. بمعنى أدق: نظام الحكم الذي يغازل ثقافتنا. ونخبنا السياسية دائمًا ما كانت مرآة جلية لانعكاسات المجتمع العراقي.
إن عجز الفرد العراقي عن إدراك واقعه الاجتماعي والسياسي، يدفعه إلى التسليم وتصديق المعاني الرسمية لهذا الواقع، وينخرط في الأوهام والأساطير، ويقدم القرابين تلو القرابين، وكل فروض الطاعة والولاء والتقديس لسياقه الاجتماعي. فتعاسة مُجَرَبَة ومُعتادة خير من سعادة مجهولة! وليس بالضرورة أن يكون تسليمًا مباشرًا؛ فنحن ننساق كثيرًا وراء اللاشعور الذي يتحكم بذاكرتنا الاجتماعية والسياسية، ونغدو في كثير من الأحيان مترجمين أمناء لنزعة الاستبداد المتفشية فينا. حتى لو طالبنا بالديمقراطية والحرية، فسنطالب بها بمزيد من التطرف والاستبداد والمغالات والتقديس الأعمى.
نحن أجيال أمرضتها ثقافة الاستبداد، ولا زلنا نتحايل على أنفسنا بأشكال تعبيرية برّاقة لكي لا تتم المكاشفة الحقيقية مع أنفسنا
لم تنجح الفئات الاجتماعية المعارضة، على سبيل المثال، من بناء أسس للحوار الديمقراطي، وتبادل وجهات النظر وسط أجواء ودية يجمعها الهم الوطني المشترك. إن شعاراتنا البرّاقة لا تعكس متبنياتنا الحقيقية، كما لو أنها محفوظات مُرغمين عليها، ولا تتغلغل إلى أعماقنا بصدق. على أي حال، ففي نهاية المطاف نحن أجيال أمرضتها ثقافة الاستبداد، ولا زلنا نتحايل على أنفسنا بأشكال تعبيرية برّاقة لكي لا تتم المكاشفة الحقيقية مع أنفسنا، وقد نجادل لدحض هذه الحقيقة، لكن لا يصح إلّا الصحيح.. المهم في الأمر، ثمّة سؤال يداهمني في كل حين، وهو كيف سننظم شؤوننا لو ثنيت لنا الوسادة؟ أزعم أن الجواب لا يحتاج إلى كلفة نقدية باهظة؛ فالواقع أصدق أنباء من الكتبِ.
اقرأ/ي أيضًا: