"فلا دنيا استمتعتم بها، ولا آخرة صرتم إليها، فبعدًا وسحقًا لأصحاب السعير". علي بن أبي طالب.
ما عجزت عنه المؤسسات المحترفة في إضعاف روحانية الدين عدة قرون، تنجح فيه التنظيمات الدينية في عقدين. على الأقل لم تكن المؤسسات العلمانية تنطلق من دوافع عدائية ضد الدين بما هو دين، وإنما بوصفه آلية استثمار سياسية ناجحة للانتهازيين. لذلك عمدت الدولة العلمانية بإعطاء فسحة للدين أن يمارس أنشطته العبادية في المجال العام. أما الدولة ومؤسساتها فلا تدار من قبل الدين على الإطلاق. فارق كبير بين تنظيم ديني يشارك بالسلطة ويحتكم بقوانين الدولة المدنية، وبين تنظيم يبتلع الدولة ومؤسساتها باسم الدين. فلدينا من التجارب ما يكفي لنستنتج بثقة أنه متى ما دخل الدين بوصفه حاكمًا سياسيًا سيخلخل بنيان الدولة ويقف حجرة عثرة تجاه الحريات المدنية بل سيقف حائلًا ضد بناء الدولة.
التنظيمات الدينية الموجودة هي أكثر التنظيمات فسادًا في تاريخ العراق السياسي إن لم يكن في تاريخ المنطقة برمتها
فالتنمية والبناء آخر هموم التنظيمات الدينية. والسنوات العشرون التي قضيناها في العراق الجديد تؤشر بوضوح معنى أن تكون الدولة محكومة باسم الدين وإن بصورة غير مباشرة. والمشكلة الأخرى، حتى لو سلمنا جدلًا بواقع الحال، أي نسلم بوجود تنظيمات دينية ذات حاضنة شعبية مؤيدة لها، وسلمنا بالأغلبية الطائفية، لكن هذه الأغلبية مصرّة على تحطيم آخر لبنة للدولة، كما لو أن تشييد الدولة الحديثة يثير حفيظتها. ليس هذا فحسب، بل أصبح الفساد صفة ملازمة لهذه التنظيمات، أي أنها مصرة على عدم توفير نموذج يقنع الآخرين بجدوى وجود تنظيمات دينية حاكمة.
عادة ما تُضرب الأمثال بالنموذج التركي باعتباره نموذج أخواني، والحال أن الحزب التركي الحاكم ليس له من الدين سوى الخطابات التجريدية التي لا تمس هيكلية الدولة، ولا تتصادم مع قانونها المدني، ولو كان حال العراق يماثل النموذج التركي لهان الأمر بالتأكيد، فهذا النموذج يشكل إدانة سافرة لكل من يحتج به بغية الحكم على نجاح التنظيمات الدينية. وفي وضعنا العراقي نجد الأمر مقلوبًا: لقد أثبتت هذه التنظيمات خطورة العامل الديني لو تدخل في السياسة. لا نتكلم هنا عن مزاجات شخصية بقدر ما نتكلم عن تجربة مريرة أثبتت فيها الأحزاب الدينية الحاكمة أنهم أكثر خلق الله فسادًا. ليس هذا فحسب بل هم أكثر التنظيمات فسادًا في تاريخ العراق السياسي إن لم يكن في تاريخ المنطقة برمتها. إذ لم نشهد حزبًا حاكمًا أضاع ثروة البلاد مثلما نشهده الآن على يد هذه الأحزاب. حتى أن المرء يتساءل: هل يمكن أن يفرز لنا مستقبل العراق السياسي أكثر من هذا التدمير الممنهج؟
يمكن أن تكون هذه التنظيمات "بشارة خير" لكل من يقف من الدين موقفًا سلبيًا، لأن هذه التنظيمات اختصرت لهم الطريق. ولم تعد المناكفات بين الفريقين ذات جدوى، ذلك أن الوقائع تخرس أكثر الناس جدلًا عن هذه التنظيمات. بل في كل يوم فضيحة يدلل فيها الحاكمون أن السلطة أقدس من الدين. عادة ما نجد التبريرات جاهزة ومسلفنة من قبيل "أن هؤلاء لا يمثلون الدين"، ونحن ننتظر بفارغ الصبر متى يظهر هؤلاء الذين يمثلون الدين، أو متى يظهر من يمنحنا نظرية متكاملة عن الكيفية أو عن النظرية الدينية الواضحة المعالم لبناء الدولة.
لكن المشكلة ليست في أن هؤلاء يمثلون الدين أو لا يمثلونه، فهذه حجة واهية ولم تعد مقنعة، المشكلة تكمن هنا: أصبحت روحانية الدين في مستوىً لا تحسد عليه. أكثر من ذلك: تحول الدين بعمومه إلى مناسبات موسمية يتحول الكثير منها إلى دعم سياسي، وكرنفالات شعبية ذات بعد طائفي يستثمرها السياسيون أمام مرأى ومسمع الفئات المتدينة، وهذه الأخيرة لا تتوفر لها قناعات كافية بالعيش الرغيد، بل أن غاية التغيير الذي حصل في العراق، أن تلطم هذه الجموع على وجهها صارخة بأعلى صوتها "هيهات منّا الذلة"!