ظهر رئيس الحكومة محمد شياع السوداني نهاية الأسبوع الماضي ليلاً في ساحة النسور والتقط مع وزير الإعمار بنكين ريكاني وبعض أعضاء فريقه الحكومي صورًا بين "شياش" الحديد وآليات ضخ الخرسانة، ليؤكّد مجددًا أنّ عصر الاختناقات المرورية في بغداد سيولي قريبًا إلى غير رجعة، فيما كان الكرخيون على مسافة غير بعيدة يتلقون صدمة قرار إزالة جزء من مقبرة الشيخ معروف الكرخي الشهيرة، حيث تريد الحكومة مد جسر هناك.
أبلغت وزارة الإعمار والإسكان ذوي عدد من الموتى المدفونين في مقبرة الشيخ معروف الكرخي بإزالتها قبل منتصف كانون الأول
مشاريع التبليط وتوسعة الطرق التي صدرها السوداني كأبرز إنجازات حكومته، حتى الآن، واجهت انتقادات واسعة في أحيان كثيرة، وسخرية في أحيان أخرى، لكن مشروع فتح جسر من ساحة الطلائع إلى منطقة البيجية، مرورًا بمقبرة الشيخ معروف الكرخي حيث يرقد آلاف البغداديين منذ عشرات السنين، فجر غضبًا غير مسبوق بين أبناء العاصمة.
الحكومة اكتفت بتعليق لافتة!
وزارة الإعمار والإسكان كانت أبلغت الكرخيين، عبر لافتة علقتها على أحد جدران المقبرة، نهاية الأسبوع الماضي، بضرورة إخلاء عدد من الموتى ضمن المقبرة في مدة أقصاها منتصف شهر كانون الأول/ديسمبر الجاري، لتنفيذ مشروع الجسر الذي قالت إنّه يتطلب قص "20 متر من قبور مقبرة الشيخ معروف الكرخي".
ودعت الوزارة ذوي الموتى ممن شملهم قرار الإزالة إلى الحضور لنقلهم بـ "الصورة الشرعية"، دون أن تعرض المساعدة المادية، أو تحدد بديلاً لأماكن القبور.
وأعلنت دائرة الطرق والجسور في وزارة الإعمار والإسكان عن المشروع في إطار "الحزمة الأولى لمشاريع فك الاختناقات المرورية في بغداد"، وقالت إنّ مدير الدائرة حسين جاسم "استطلع" في 29 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، مسار مشروع "مجسر الطلائع وربطه بشارع 80 في منطقة البيجية"، ووجه بـ "المباشرة فورًا بفتح مسار المشروع تمهيدًا لانطلاق أعماله خلال الفترة القليلة القادمة".
أثار القرار غضبًا عبر عنه بعض ذوي الموتى وسكان الكرخ القديمة عبر مقاطع مصورة وتدوينات تهاجم بعض مشاريع حكومة السوداني وتطالب بوقفها
وقالت الدائرة أيضًا في بيان نشر على موقعها الرسمي، إنّ "المشروع سيكون محورًا جديدًا لربط منطقة المنصور من جهة تقاطع اللقاء وصولاً إلى تقاطع الطلائع، ومن ثم منطقة باب المعظم، ما يسهم في تقليل الزخم الموجود على المحاور الأخرى"، مشيرة إلى أنّ "المشروع يتكون من مجسرين، الأول ضمن منطقة البيجية، والثاني يربط ساحة الطلائع مرورًا من فوق شارع 14 تموز (طريق مطار المثنى)، مع عمل تقاطع مجسر للربط بين شارع 14 تموز والمشروع الجديد".
القرار وقع كالصاعقة على البغداديين، وأثار موجة غضب واستنكار واسعين، عبرت عن جزء منها تدوينات ومقاطع مصورة نشرها ذوو الموتى عبر حساباتهم على مواقع التواصل العراقية.
"لم يفعلها صدام حتى!"
"سويتوها بلا ملح"، قال أحد المواطنين، منتقدًا بغضب مشاريع الطرق والجسور التي تبنتها حكومة السوداني، مطالبًا عبر فيديو قصير بثه في فيسبوك، بوقفها فورًا بوصفها "فاشلة"، ثم ختم حديثه بشتم المجسرات ومصمميها من فريق السوداني.
فيما كتب أحمد رياض، أحد الذين سيضطرون إلى نبش قبر أبيه وعدد من أفراد عائلته، مقارنًا بما فعله النظام السابق حين أراد إزالة قبور اليهود لاستكمال مشروع طريق محمد القاسم السريع.
وقال رياض عبر حسابه في فيسبوك، إنّ النظام السابق "خصص، مطلع الثمانينات، أرضًا بمنطقة الحبيبية شرقي بغداد كمقبرة بديلة لقبور يهود بغداد القديمة في منطقة النهضة والتي دُرِست لغرض إنشاء امتداد جسر طريق محمد القاسم السريع، وتم نقل جثامينهم بكل احترام على عاتق الدولة، رغم عدائه المفترض وشكوكه الكبيرة تجاه اليهود منذ إعدام تجارهم عام 1969".
"1000 قبر على الأقل"!
وأضاف، أنّ خطوة وزارة الإعمار "الصادمة أهملت وضع حلول هندسية ذكية متطورة، ولم تتفاد إحداث مجزرة قريبة لما يقارب 1000 قبر مسلم بغدادي، بل والأتعس من ذلك، لم تكترث حكومة فك الاختناقات برئاسة السيد السوداني ولم تعمل على تخصيص أرض بديلة، ولم تتكفل بنقل رفاة قبور بعمق نزال 20 متر وامتداد بطول مئات الأمتار من القبور المكتظة، مرورًا بموازاة القبة المخروطية العباسية الأثرية لقبر زمرد خاتون (الست زبيدة)، ضمن مقبرة الشيخ معروف الكرخي، بل تركت الأمر لذوي المدفونين وسط حيرة كبيرة جدًا بالبحث عن الأرض البديلة، وبإيجاد الأيادي الكافية التي يجب أن تتولى النبش، مع دفع كلف باهظة قد يصعب تحملها على طبقة الفقراء المسحوقين من ذوي بعضهم، الذين شاهدت نسائهم يلطمن ويصرخن معلنين عدم قدرتهن على دفع الملايين".
سيضطر عدد غير قليل من سكان الكرخ إلى إنفاق الملايين لنقل جثامين ذويهم في الأجزاء المشمولة من المقبرة دون أي دعم حكومي
وسيضطر رياض، وفق ما كتب، إلى مفاوضة مهندسين لتحديد مصير رفاة والده وأكثر من 10 آخرين من أفراد عائلته، تقع قبورهم في المنطقة المقرر إزالتها، وقال إنّ القرار خلف "شعورًا نفسيًا مأساويًا لدى ذوي الموتى في المقبرة"، وإنّ "التاريخ سيسجل هذا الأمر بخانة المقارنة في التعامل بين النظام السابق مع قبور يهود بغداد، وبين تعامل النظام الحالي مع قبور مسلمي بغداد".
آخرون من سكان الكرخ القديمة عبروا عن غضبهم بانتقادات مماثلة، قبل أنّ يقرروا تنظيم تظاهرة صباح السبت 2 كانون الأول/ديسمبر، قرب مقبرة الشيخ معروف الكرخي لإعلان رفض تنفيذ قرار إزالة القبور.
"بانتظار فقهاء الوقف السني"
وفي 27 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي عقد رئيس الوقف السني مشعان الخزرجي اجتماعًا مع "علماء ومتخصصين" لبحث قضية إزالة أجزاء من مقبرة الشيخ معروف الكرخي كما تريد الحكومة.
ووفقًا لبيان صدر عن الوقف ونشر عبر حسابه الرسمي في فيسبوك، فإنّ الاجتماع انتهى إلى "إحالة المشروع إلى لجنة من الفقهاء والمختصين بالجانب الهندسي، من أجل النظر في مشروعية التنفيذ من الناحية الشرعية، وإمكانية التطبيق من الناحية الهندسية".