يجري نقاش محلي – ليس الأول من نوعه - بين الأوساط الشعبية والإعلامية حول إمكانية إسقاط النظام العراقي الجديد الذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية بعد 2003 من قبل قوى خارجية في الفترة المقبلة، طغى بعد تصريحات لنائب سابق في البرلمان العراقي، وتطورات سياسية جديدة متمثلة باقتحام أنصار التيار الصدري للمنطقة الخضراء ودعوات الصدر لتغيير النظام.
أعادت الولايات المتحدة الأمريكية العراق إلى العصور الوسطى كما توعد وزير خارجيتها، بعد غزو صدام حسين للكويت
ويصادف هذه الأيام، مرور ثلاثين عامًا على قرار رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين بتحريك الجيش لاقتحام الكويت واحتلالها، وما بعد ذلك من قرار أمريكي بإعادة العراق إلى القرون الوسطى، حسب تصريح وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر آنذاك، والذي صار واقعًا تباعًا.
تحدثنا قبل الانتخابات الأخيرة عن إمكانات "سقوط" النظام في السياق الرد على دعوات المقاطعة التي تستهدف إسقاطه، وقلنا إن الأحزاب والجماعات المسلحة ستدافع عن وجودها بالحديد والنار، ما يعني أن إزاحتها بالكامل عن المشهد يعني احتلالًا جديدًا.
والنقاش الذي جرى قبل مدة، يدور حول إسقاط من الخارج استنادًا إلى تصريحات النائب الذي لم يعطِ دليلًا على ادعاءاته؛ لكنه نقاش مفيد على أية حال. وما دام النقاش منحصر بالإسقاط الخارجي فسنقتصر عليه كذلك.
من ضمن الترجيحات التي طرحناها قبل الانتخابات هو انقلاب الجماعات المسلحة على نتائج الانتخابات، أو على مآلاتها لناحية خارطة التحالفات، أو إحكام قبضتها على الحكومة وإقصاء فريق خارجها، وقد حدثت النقاط الثلاث مجتمعة وبنسب وطرق مختلفة.
باتت شرعية النظام في العراق محل شك؛ لكن البلاد مرتبطة بمشابك إقليمية ودولية ومحلية
وفي ما بعد خطوات هذه الجماعات، توقعنا ظهور إمكانات سقوط النظام بتزعزع شرعيته على الصعيدين الداخلي والخارجي. ولعل الشرعية الآن باتت محل شك ليس على صعيد الشارع المُقاطع والناقم فحسب، بل على صعيد قوى سياسية قاتلت للحفاظ على النظام وقواعده، خصوصًا بعد انسحاب الكتلة الصدرية صاحبة القاعدة الشعبية المؤثرة والفائز الأول في الانتخابات من البرلمان، وما حدث ويحدث بعدها.
يُمكن للمعلومات التي طرحها النائب السابق أن تكون صحيحة بناءً على حديث مع أجهزة دول معينة، أو أن تكون جزءًا من حملة إعلامية فحسب، ولا مجال للتحقق منها في غير التقصي الصحفي؛ أما في التفكير السياسي، فمن الممكن اختبار إمكانية تحققها على الأرض. أي إمكانية تحقيقها لا التحقق من صحتها.
يرتبط العراق بمشابك مختلفة، سياسية: على الصعيد الإقليمي، والدولي، وكذلك المحلي. واقتصادية: على صعيد النفط، وسلاسل الإمدادات، والأزمات الحادة في العالم.
إن الأوضاع السياسية على الصعد الثلاثة تتقلب بصورة واضحة تُنبئ بتحولات محسوسة، فالعراق منذ انتفاضة تشرين في مخاضٍ عسير ومؤلم تتصارع فيه إرادات شعبية للتغيير، وقوى سياسية لا تريد الاستجابة، وأخرى تحاول استثمار تلك الإرادات لإحداث تغيير معين تكون فيها القوى المهيمنة.
ذكرنا في مرات سابقة أن ختام نتائج الانتفاضة الشعبية سيكون بنتائج الانتخابات التي ستجري بعدها وما تُسفر عنه. وكانت النتائج تشير إلى تغيير واقعي في موازين القوى قبل أن تتفاعل سلسلة من الإرادات لإعادة الأمور، وسنتحدث عن ذلك لاحقًا.
اصطفاف الدول العربية والخليجية مع تركيا يعيدنا إلى مشهد العام 2010، مع شبه ثانٍ متمثلٍ بإقصاء الفائز الأول في الانتخابات العراقية
في الإقليم، ثمة إعادة تشكيل لاصطفافات (التعبير الأفضل من التحالفات حتى الآن) كانت أكثر وضوحًا قبل تفككها بعد ثورات الربيع العربي، وقد استثمرت إيران والدول الحليفة لها ذلك التفكك لتثبيت الأقدام في سوريا واليمن ولبنان، والعراق بطبيعة الحال.
وفق ترجيحات المراقبين، فأن اصطفافًا قديمًا جديدًا ربما يُعود إلى المنطقة سيتمثل بزيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى المنطقة وحضوره القمة الخليجية في السعودية، التي جمعت (دول الخليج +3)، مع مصر والعراق والأردن، إضافة للولايات المتحدة.
في المنطق السياسي، يعني اتفاق هذه الدول (نستثني العراق لعدم وجود قرار سيادي واحد) رفقة تركيا، وإسرائيل، على مجموعة مبادئ تشكّل تحالفًا اقتصاديًا أو عسكريًا أو سياسيًا، البدء بحملة تضييق مشتركة على النفوذ الإيراني. لكن تركيا كانت في قمة ثلاثية مع روسيا وإيران في السياق الزمني للقمة الخليجية.
لم تسمح إيران بالتحرش العميق بنفوذها في العراق، وباتت صواريخ الفصائل المسلحة الموالية لها لا تطال المنشآت العسكرية فحسب، بل شركات وشخصيات لها علاقة بمشاريع اقتصادية خصوصًا في مجال الطاقة. ولا يوجد مبرر حتى الآن لتخلي إيران عن نفوذها، أو "مصالحها" كما يُعبرون في الأدبيات السياسية، لصالح نفوذ أو "مصالح" الدول الأخرى، سواء التي اجتمعت في السعودية، أو غيرها.
قبل 12 عامًا، اصطفت الدول العربية (السُنية) وتركيا في بادئ الأمر، وتحديدًا في سوريا، قبل تضارب المصالح، واستشعرت الأحزاب العراقية (الشيعية) المهيمنة على النظام خطرًا في ذلك، وأقر رئيس الحكومة آنذاك نوري المالكي، لاحقًا، بأنه خاطب الأمريكيين لمنع هذا التحالف الذي يجمع قطبين مثل تركيا والسعودية، وإلا سيتجه النظام العراقي إلى المحور الآخر، يقول المالكي مُهددًا، ويعني بذلك الانضمام لمحور إيران – سوريا النظام.
زادت الدول الغربية من حضورها في العراق رغم انتفاضة تشرين وما شهدته من أحداث عنف بحق المتظاهرين
وفي تزامن هذا الاصطفاف مع الثورات العربية، أُقصيت القائمة العراقية برئاسة إياد علاوي، والتي حصلت على المركز الأول في الانتخابات البرلمانية - وهي نقطة تحولٍ في مسار النظام العراقي ما زالت تداعياتها مستمرة حتى الآن – ليشهد العراق فوضى أدت في نهايتها إلى سقوط ثلث المحافظات العراقية بيد تنظيم داعش.
تتشابه تلك الأحداث مع بعض مسارات المرحلة الحالية؛ فالاصطفاف ذاته بات قريبًا وعلى أرضية أكثر تماسكًا لارتباطها بمستجدات وتحديات اقتصادية وسياسية، بالتزامن مع منع الفائز الأول في انتخابات 2021 من تشكيل الحكومة وانسحابه من مجلس النواب العراقي، واعتصامه مؤخرًا في البرلمان، بعد محاولات التوجّه لتشكيل حكومة من ذات أطراف العام 2010، مدعومة بالفصائل المسلحة التي استقوت وهيمنت في ما بعد.
قبل ذلك، قد يسأل أحدهم عن سبب افتراض عدم وجود قناعة كاملة حتى الآن، ونجيب بالقول إن لا مؤشرات على عدم دعم النظام العراقي من قبل الدول المؤثرة في الغرب والشرق.
كانت انتفاضة تشرين اختبارًا لمدى رغبة هذه الدول وتحديدًا الولايات المتحدة الأمريكية لإجراء تغيير شامل في العراق يُسقط نظامه السياسي كما روّج ويُروّج أنصاف السياسيين والإعلاميين؛ لكن المحتجين الذين لم تطالهم رصاص القناصين وقنابل الغاز المُلقاة على الرؤوس، عادوا إلى بيوتهم بعد شتى أنواع القمع، وزادت الدول الغربية من حضورها في العراق.
لا تسمح الأوضاع العالمية والأزمات الصحية والاقتصادية والعسكرية بخوض حرب لإسقاط النظام في العراق
وكانت مرحلة ما بعد انتخابات تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أمام احتمالات متعددة منها تشكيل حكومة غير معادية لرؤية خصوم إيران، وفي الوقت ذاته لا تسمح بالانحياز التام إلى هذا المحور (العربي – الإسرائيلي – الأمريكي)، أو المحور الإيراني بالكامل، خصوصًا بوجود التيار الصدري. لكن "كان وبعض أخواتها" لا وزن لهن في السياسة، وبالتالي فأن هيمنة حلفاء إيران على الحكومة الجديدة لو حدث سيفتح احتمالًا لصدامٍ أو صراعٍ مع مناهضي السياسة الإيرانية في المنطقة.
وفي كل الحالات والاحتمالات، فأن النفوذ الإيراني في العراق سيحسم العلاقة مع الدول الغربية والإقليمية، كما أن عدم سيطرة إيران على حماقات كبيرة محتملة من قبل حلفائها في العراق، قد يؤدي إلى تدخل مباشر أو غير مباشر.
لكن؛ حتى هذه اللحظة، يصف بايدن العراق بأنه "منصة للدبلوماسية"، ويتحدث قيس الخزعلي المدرج على قوائم الإرهاب عن "رسائل واضحة" من الدول الكبرى في تعاملها مع الحكومة المقبلة، كما أن الموقف الأمريكي من احتجاجات الصدر كان واضحًا بالدعوة للحوار والالتزام بالدستور، ودعم "الاستحقاقات الدستورية".
إن الأوضاع العالمية الملتهبة، وما خلّفته جائحة كوفيد - 19، ومن ثم الحرب الروسية - الأوكرانية، والتوتر بين الصين - تايوان، عوامل لا تساعد على اتخاذ قرار خارجي بخوض حربٍ في العراق لإسقاط نظامه، وتعثّر إمدادات النفط، خصوصًا وأن الأزمات الاقتصادية الناجمة عن الأزمات الصحية والسياسية والعسكرية ستكون لها تبعات على المدى المتوسط.
كما أن النظام الطائفي في العراق، يتيح لأي لاعبٍ دولي التدخل في شؤونه، والتأثير على الكثير من قراراتها، مع ضعف واضح في القدرة العسكرية والاقتصادية والسيادية، فهل هذا يزعج الولايات المتحدة الأمريكية وأمن إسرائيل؟
قبل 32 عامًا، ارتكب رأس النظام العراقي السابق الخطيئة السياسية الكبرى بغزو الكويت، وقررت الولايات المتحدة الأمريكية إعادة العراق للعصور الوسطى، وقد بدأت ذلك بالحصار الاقتصادي المفزع طيلة 13 عامًا، ثم أسقطت النظام، وجاءت بنظام محاصصة طائفية يتبنى العصور الوسطى بالفعل.
إن النظام العراقي الحالي، الأمريكي المنشأ، يُبقي العراق ويجذّره في تلك العصور التي تحدث عنها جيمس بيكر؛ وما الحديث طيلة السنوات السابقة عن رغبة أمريكية بتغييره، إلا مجرد قصائد بائسة تحشّد من خلالها بعض القوى السياسية الإسلامية أنصارَها بشعارات تلهيهم عن حقيقة وصولهم إلى الحكم بواسطة الأمريكيين، وحقيقة تغذيتهم بالفساد والصفقات المشبوهة والاستيلاء على أملاك الدولة والناس وتجارة المخدرات، وغير ذلك.
نكرر ما نقوله دائمًا، إن أمريكا تحمي النظام في العراق، وإيران تحمي شخوصه. أما تغييره من الداخل فلذلك اشتراطات عديدة وبعضها متعسرة، سنتحدث عنها في مقال لاحق.