ثمة فارق جوهري في الحدث الكبير كالجرائم والاغتيالات والاستهدافات وغيرها من الاعتداءات المختلفة لناحية تفسيرها وتبعاتها ونتائجها بين الميدان السياسي والميدان الجنائي البحت. في السياسة: لا يهم من هو الفاعل الحقيقي للجرم؛ بل من تشير له أصابع الاتهام.
في بلاد مثل العراق من الصعب التسليم بهوية المتهمين بالأحداث الكبيرة وخصوصًا الأمنية منها
بينما ينشغل المحققون الجنائيون في البحث عن أدلة تثبت أو تناقض ادعاءات المعنيين أو المتهمين أو المدعين، يكون الميدان السياسي قد حسم أمره وتحركت خارطته الداخلية استنادًا إلى من تشير له الأغلبية بالاتهام.
اقرأ/ي أيضًا: أربعة حروب شيعية لتثبيت الحكم.. ما هي الخامسة؟
في بلاد مثل العراق من الصعب التسليم بهوية المتهمين بالأحداث الكبيرة وخصوصًا الأمنية منها: القصف، الاغتيالات، التهديدات.. إلخ. ذلك على اعتبار العراق ساحةً مفتوحةً تتشابك فيها القوى الداخلية التي هي الدولة ومضادُها في الوقت ذاته، والتي تمتلك وسائل عُنف واستخبارات ونفوذ. إضافة إلى القوى الخارجية التي يسهل لها التواجد والعمل على أرض العراق في ظل فشل الدولة بإحكام قبضتها وإثبات فعاليتها بوصفها دولة، وبالمهام التي رُسمت لها منذ فجر التاريخ.
من هنا، تبدو نظرية المؤامرة كأساس تحليلي لاعتماد التفسيرات وتبني النتائج النهائية للحوادث الكبيرة طريقةً سطحية تودي بمتبنيها إلى الخلط وضياع البوصلة في فهم الأحداث. على سبيل المثال: تتجه أصابع الاتهام فورًا بعد كل عملية قصف بصواريخ الكاتيوشا والعبوات الناسفة والرمانات اليدوية التي تطال منشآت عسكرية ومدنية ومطار بغداد الدولي والسفارة الأمريكية ومقار الأحزاب السياسية فضلًا عن حالات الخطف والاغتيالات التي تطال ناشطين وصحفيين وسياسيين، تتجه إلى أحزاب وجماعات عسكرية بعينها، المقربة لإيران في الغالب.
وبالاستناد إلى قاعدة "البحث عن المستفيد" وكذلك نظرية المؤامرة يُمكن تبني ما تشير له أصابع الاتهام بفرضية "الضغط للحصول على مكاسب"؛ لكن يُمكن أيضًا – وهنا مربط الفرس – تبني فرضية وجود طرف آخر يساهم في صناعة الفوضى لتعزيز الفرقة بين جناحين، أو لتقريب حرب داخلية تصب في مصلحة هذا الطرف.
في الميدان الجنائي يُمكن تتبع الأدلة العينية والمعلومات الاستخباراتية وانتزاع الاعترافات بالطرق المختلفة لتعزيز إحدى الفرضيتين (أو غيرهما) وتحويلها إلى حقيقة قاطعة. أما في الميدان السياسي لناحية النتائج وتحديدًا في الحالة العراقية فلا أهمية جذرية لذلك، وإن كانت الأدلة قد تقلب الفرضيات. ولمثال خارجي: ماذا تعني نتائج التحقيق بعملية اغتيال رفيق الحريري على الصعيد الشعبي والإعلامي وبالتالي السياسي؟
جوهر الاختلاف بين الميدانين يكمن بوجود تغيّرات بنيوية تحدث في الميدان السياسي استنادًا إلى ما تشير له أصابع الاتهام. على سبيل المثال: اقتناع القاعدة الجماهيرية للفاعل المفترض، وكذلك قاعدة المُستَهدَف، بهوية الفاعل يتطلب تحركات ومواقف وتصريحات من القيادات والنخب تتناسب وهذه القناعة العامة، والقناعة هذه ترسم سياسات بعيدة المدى.
أما ما الذي يجعل المعلق والخبير والباحث والفاعل السياسي يتخذ رأي العامة ذاته أو عكسه بغض النظر عن النتائج السياسية للحدث الكبير التي ستظهر بكل الأحوال؟ - إنها مسألة أُخرى تتخذ جوانب عديدة يدخل فيها العامل السياسي والنفسي والاجتماعي والإعلامي ليشكّل مركّبًا يُساعد على تحديد مسار الباحث.
في حالة العراق والقصف الدوري حديثُ الساعة، يُمكننا طرح أسئلة معادلة لأسئلة البحث الجنائي كـ"البحث عن المستفيد" للاقتراب من النتيجة وتحديد هوية الفاعل: من يُمكنه أن يضرب بالصواريخ والعبوات الناسفة؟، هل يُمكن لطرف ثالث أن يقصف دون أن يُكشَف وسط التعدد الهائل بالأجهزة الأمنية المحلية؟
إن الكشف عن تورط طرف ثالث في عمليات القصف على فرضية "إيقاع الفتنة" سيعطي حجة مثالية لمن تشير لهم أصابع الاتهام لنفي التهمة عنهم، ليست الآنية فحسب، بل لعل الكشف عن عملية واحدة يجب ما قبلها من تهم امتدت لسنوات.
في الأيام الماضية، نشرت منصة إعلامية على مواقع التواصل الاجتماعي ذات تحريرٍ وتسويق مبتدئ تناصر الفصائل المسلحة خبرًا مستندًا إلى معلومات "استخباراتية" تفيد بوجود رئيس الحكومة القائد العام للقوات المسلحة على متن طائرة حطّت في قاعدة القيارة بمحافظة نينوى، وذلك قبل أربع ساعات من إعلان جهاز الدولة الإعلامي عن وصوله.
لا فائدةَ من الاستنكارات ونفي التهم حتى في ظل عجز أو امتناع الحكومة عن إظهار ما هو جنائي
وبالعودة إلى نقطة البداية: لا فائدةَ من الاستنكارات ونفي التهم حتى في ظل عجز أو امتناع الحكومة عن إظهار ما هو جنائي، فالتغيرات الفيزيائية في السياسة تأخذ وستأخذ مجراها، وعواقبها وخيمة على أية حال.
اقرأ/ي أيضًا: