أرجو في البدء ألّا يجري التركيز على مسميات الجهات أو الأشخاص التي سترد في سياق سرد الأحداث بل على الحدث بذاته ثم بالإمكان إعادة البحث عن التغيير في مراكزها أو سياقات الحدث ذاته، لأننا أمام قراءة - سنحاول اختصارها - تحاول وضع الركائز على الحقبة الزمنية الماضية لعلّها تساعد في استشراف المستقبل. والمستقبل في العراق كما السنوات الماضية مرتبط بالشيعة بوصفهم (مكونًا، بتعبيرات بريمر)، وبقادتهم، وطريقة تعاطيهم مع المستجدات والتحديات.
وصل الساسة الشيعة إلى الحكم بعد احتلال أمريكي ثم دخول إيراني قوي إلى العراق فكان حكمًا هجينًا قبل أن يكون جديدًا خاضوا من أجله معارك عدّة
يرتبط المستقبل بالمسار الشيعي لأنهم أكثرية سكانية بالمعنى الطائفي الذي أُسس عليه النظام العراقي ما جعلهم ممسكين بزمام السلطة وبالتالي أمام مسؤولية تاريخية.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا بعد الاستيلاء على السلطة؟
يأتي ذلك بعد مسيرة مضطربة، معقّدة، غير مستقيمة، على الأقل في قرن الدولة العراقية الحديثة، انطلاقًا من ثورة العشرين التي شاركت فيها زعامات عشائرية ودينية شيعية بثقل هو الأكبر لإعلان تشكيل المملكة العراقية تحت الانتداب البريطاني ذات التمثيل الشيعي السياسي الضعيف نسبيًا وحتى انتفاضة آذار.
أصبح هذا المسار التي ذُكرت انطلاقته إرثًا كبيرًا وثقيلًا على الشيعة وممثليهم بعد وصولهم إلى السلطة عقب الإطاحة بنظام صدام حسين. وبفعله، وبفعل عوامل أخرى، واجهوا صعوبات حقيقية ربما تفوق ما واجهته أية حكومة في السنوات الماضية حتى إبان التغيير في البلدان العربية. اجتمعت قلة الخبرة، الوضع العام في الداخل والمنطقة، غياب القرار المحلي للنخب الحاكمة، فضلًا عن الإرث التاريخي لناحيته المذهبية والاجتماعية، والتراكمات السابقة سياسيًا واقتصاديًا، فأنتجت فوضى عارمة لم تنتهِ حتى الآن؛ لكن في وسط ترابها العالي يُمكن التقاط التقدم الذي بدء منذ 2003 نحو تثبيت الحكم بقيادة الشيعة.
وصل الساسة الشيعة إلى الحكم بعد احتلال أمريكي ثم دخول إيراني قوي إلى العراق، فكان حكمًا هجينًا قبل أن يكون جديدًا، خاضوا من أجله معارك عدّة. وإننا إذ نقول خاضـ"وا" فلأن البدء كان من تشكيل نظام على أساس الأكثرية الطائفية لا القومية، ما يعني هيمنة شيعية على القرار بالأغلبية، ولأن المعارك التالية كانت استمرارًا لهذا البدء، وهو ما استوجب إيضاحه: فلا نعني بـ"الشيعة" – في هذا السياق – المواطنين والمذهب والتاريخ والمصلحة والمنطقة والممثل الأبرز؛ بل الحكم الشيعي الرسمي للدولة، وإن كان ما ذكرنا ينطوي تحته في حال من الأحوال.
كنّا قبل خمس سنوات قد حددنا أربعة معارك خاضها "الشيعة" خلال حكمهم ثلاثة منها خارجية وواحدة داخلية، لزم التذكير بها في ظل ما تشهده الساحة العراقية من تهديدات سياسية داخل المكون ذاته إضافة إلى مسألة الوجود الأمريكي والمباحثات النووية والتعقيدات في المنطقة وتحولاتها وصولًا إلى الإرهاب.
تتحدث النسبة الأعم من المعلقين والمؤرخين عن تاريخ 9 نيسان/أبريل 2003 وما جرى بعده من أحداث أدت إلى وصول الشيعة لسدة الحكم؛ لكننا نتعدى مرحلة الفوضى بادئ الأمر حين قاتلت القوات الأمريكية والعراقية الناشئة جماعات مسلحة شيعية وسُنية، لنحدد تاريخ المعركة الأولى التي تجلّت في 2006: معركة السيطرة على بغداد وضواحيها وجوارها، معركة ما بعد تفجير الإمامين في مدينة سامراء والتي انتهت بتثبيت أقدام في مركز البلاد، مركز الدولة، لا الدولة كلها. وقد بطشت الجماعات المسلحة ببعضها البعض حتى ضاع الرسميُ منها بغير رسمي في ظل الاحتلال.
بعد هذه المعركة (الخارجية) المفصلية التي غذّتها صراعات تاريخية وأحقاد وعمليات انتقام ومخاوف فضلًا عن الإرادات الخارجية، جاءت المعركة الداخلية الأولى (والوحيدة حتى الآن) وتجلّت في العام 2008 بين النظام الجديد ذاته وميليشيات خاضت المعركة السابقة، ونتحدث هنا عن ما عُرف بصولة الفرسان التي قادها رئيس الحكومة نوري المالكي بغطاء أمريكي ضد جيش المهدي بزعامة مقتدى الصدر وانتهت لصالح الأول، وبالأحرى لصالح تثبيت سلطة النظام الجديد على بغداد ومناطق الوسط والجنوب.
بضغط الداخل الأمريكي، والداخل العراقي، خرجت الولايات المتحدة عسكريًا من العراق تدريجيًا بعد المعركة الثانية تاركةً النظام الجديد تحت قبضة الشيعة الذين لم يبسطوا سيطرتهم على غرب وشمال العراق بعد. فتداعت المحافظات تباعًا لأسباب عدّة لتنتهي تحت سيطرة تنظيم داعش فتنطلق المعركة الثالثة التي تجلّت في 2014 وفيها أدخلت المرجعية الدينية بدعوتها (فتواها) المجتمع الشيعي بأكمله في حربٍ انتهت بإخضاع مناطق كانت عمليًا لا تخضع لسيطرة نظام الحكم الجديد منذ 2003 وبأدوات دولتية مع صبغة شيعية واضحة، بدعمٍ إيراني على الأرض، وأمريكي في السماء طلبه النظام رسميًا.
المعركة الرابعة التي ربما يتردد المرء من تسميتها "معركة" لكنها برأينا تستحق لضخامة الحدث ومصيريته، وهي الثالثة خارجيًا، كانت معركة الاستفتاء: حين نظّمت السلطات في إقليم كردستان منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2017 استفتاءً شعبيًا على خيار الانفصال من العراق بعد إعلان تحرير البلاد من تنظيم داعش مباشرةً. وهنا تقدم الشيعة بقواتهم الرسمية والمساندة (الفصائل المسلحة) وسيطروا على مناطق استولت عليها قوات البيشمركة الكردية في العام 2003 و2014 و2016، بل وصلت سلطة بغداد بعدئذ إلى أقصى المنافذ البرية والمطارات ومناطق لعلها خرجت من سيطرة النظام البعثي ذاته.
انتقد رئيس إقليم كردستان آنذاك مسعود البارزاني الدور الأمريكي في معركة بغداد وأربيل متسائلًا: هل تريد واشنطن معاقبتنا؟
أردنا من هذا السرد التاريخي السريع لفت الإنتباه لأربعة معارك خاضها النظام الجديد بقيادة الشيعة بدأت بثبيت قدمه في بغداد حتى وصلت إلى أعلى جبال كردستان. وما تجدر الإشارة إليه – وباعتقادي لا يجري طرحه بجدية – هو إن تلك المعارك التي فرضت هيمنة الشيعة في بغداد أولًا، وفي مركز الدولة ثانيًا، ولمركزية الدولة ثالثًا ورابعًا، جرت بموافقة أو غطاء أو دعم أو عدم ممانعة، أو غض للنظر، من قبل الولايات المتحدة، ولنسمي هذا "الموقف الأمريكي مع الشيعة منذ 2003".
نخلصُ القول إن التجارب – وليست نظريات المؤامرة – تشير إلى أن الولايات المتحدة لا تريد للنظام - الذي يسيطر عليه الشيعة، لا الشيعة بالذات – أن ينهار. ولم يتجلى ذلك بالمعارك الأربعة المذكورة فحسب، بل بالدعم السياسي والاقتصادي ومسألة العقوبات ودعم العملة وإجبار الدول العربية على التعاطي مع النظام الجديد، وصولًا إلى انتفاضة تشرين حيث لم تُبدِ الولايات المتحدة ردّة فعل قوية اتجاه النظام الذي بطش بالمتظاهرين ترقى لمستوى "فرصة سانحة للنيل من عدو"، ولعلها استثمرت فيها لمصالح أخرى لكنها على أية حال ليست كما تفترض "حالة العداء" التي يصوُرها بعض قادة الأحزاب والفصائل الشيعية مع الولايات المتحدة.
التجارب – وليست نظريات المؤامرة – تشير إلى أن الولايات المتحدة لا تريد للنظام - الذي يسيطر عليه الشيعة أن ينهار
من هذا السياق وفي ظل الأوضاع الحالية والأزمات الموجودة على الأرض نستطيع استنتاج أن معركةً خامسةً (إنْ حدثت) ستكون بخيارين: إما أن تؤول السلطة في العراق إلى قوى سياسية وعسكرية تستكمل فرض النظام على الفصائل المسلحة المشاغبة لتكون معركة (داخلية) ثانية مع ذات "الموقف الأمريكي مع الشيعة منذ 2003" وبالتالي تستكمل النموذج العراقي، أو أن تعلن تلك الفصائل تمردًا ناجحًا في جنوب ووسط العراق نحو نموذج يمني يجعلنا أمام "إقليم محاصر" سبق وأن تحدثنا عنه وسنتطرق إليه مع حلول مقترحة في مقالة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: