يعود الجدل مرة أخرى مع عودة مطلوبين للقضاء دون سابق إنذار أو محاكمات أو أحكام علنية، في مسلسل ليس جديدًا، يستلهم قصصه من انهيار الأوضاع السياسية ثم الأمنية بدءًا من 2013 فلاحقًا، خصوصًا في المحافظات ذات الأغلبية السُنية.
إن كان المتهم بريئًا فلماذا بقي هاربًا أو مسجونًا؟ وإن كان مذنبًا فكيف خرج أو عاد طليقًا؟
ينبغي ابتداءً تأشير نقطة جديدة من سلسلة نقاط حول السلطة القضائية وقراراتها وتوقيتات قراراتها غير الطبيعية تمامًا، والتي تُفسر عادةً بالسياسية من قبل الجميع، عدا المستفيدين من تلك القرارات.
ولا بد من تكرار المحاججة لكي لا تندثر: إن كان المتهم بريئًا فلماذا بقي هاربًا أو مسجونًا؟ وإن كان مذنبًا فكيف خرج أو عاد طليقًا؟
كان رئيس ائتلاف دولة القانون والرجل الأبرز في الإطار التنسيقي نوري المالكي يريد الدفاع ضد اتهامه بالمساهمة في عودة علي حاتم السليمان ورافع العيساوي إلى بغداد، وتحدث عن مساهمته بتحديد موعد للمطلوبين في المحكمة، واستقبالهم من المطار إليها، وقال بالحرف "لا يمكن فعل شيء أكثر من ذلك"، فأثبت التهمة على نفسه، وكأنه يقول مبررًا: "لم أجلس على كرسي القاضي وأطرق رافعًا الجلسة"، فهل اتهمه أحد بذلك؟
لم يكتف المالكي بإثبات ضلوعه، أو الإطار، في قضية إعادة المطلوبين، بل أكد التفسيرات التي تداولتها الأوساط السياسية والصحفية بل والشعبية، حول الهدف من إعادتهم في سياق الضغط على رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي.
كمّاشة النار ذات الحدين
نقطة ينبغي الارتكاز عليها مقابل الحديث عن الدهاء والمناورات السياسية الإطارية: سبق لقيادات الإطار أن استقبلوا وتحالفوا مع من اتهموه بالإرهاب وتمزيق العراق "خميس الخنجر"، ثم صوّتوا لمحمد الحلبوسي رئيسًا لمجلس النواب عشية تشكيل "تحالف البناء"، فكان أحد الأهداف التي سُجلت لصالح حلفاء إيران، ثم صار الحلبوسي والخنجر بعد أربع سنوات فقط في معسكر يقول الإطاريون إنه يحمل مشروعًا لإقصائهم.
صار الحلبوسي والخنجر بعد أربع سنوات فقط في معسكر يقول الإطاريون إنه يحمل مشروعًا لإقصائهم
الآن، يعيد الإطار/البناء الكرّة مجددًا مع قيادي سني يتسم بصفات سياسية/كارزمية داخل مجتمعه، مقابل قيادي سني له سلطة عشائرية داخل مجتمعه، ليشكّلا كمّاشة نار مزدوجة على الحلبوسي الذي اختار التحالف مع التيار الصدري مرجحًا كفته على الإطار، في استدارة 180 درجة عمّا فعله في 2018.
عناصر قوة
إن انتزاع سلطة رئيس مجلس النواب بهذه الحركة غير مضمون. لقد كان الحلبوسي صديقًا لحلفاء إيران وخصمًا لخميس الخنجر حتى إعلان نتائج انتخابات 2021. ثم توحّدا بمساعدة خارجية، رغم محاولات الإغراء بملف جرف الصخر وما أثاره من معارك إعلامية شرسة، واصطفا إلى جانب الصدر مقابل الإطار.
استطاع الحلبوسي حصد المقاعد الأكثر في مجلس النواب عن الجانب السُني، وبالتالي الاستمرار في منصب رئاسة مجلس النواب لدورة ثانية. لم يستطع توحيد الجميع لكنه وحّد الكثير. هذا الغطاء السياسي مع القوة المستمدة من التحالف مع الصدر والبارزاني يساعدان على تثبيت كرسيه في الدورة الحالية.
من النقاط الأخرى التي في صالح الحلبوسي هي امتلاكه شيئًا على الأرض: ارتبط أسمه بإعادة الإعمار في الأنبار وإن كان بطلاء الأرصفة وإكساء الشوارع ونصب أعمدة الكهرباء. من المهم إدراك التفكير المجتمعي في الأنبار اتجاه حالة الاستقرار بعد العذاب والنزوح.
لم يعد الإطار التنسيقي بالقدرة الكافية لتوزيع المناصب بالطريقة السابقة، فهو أحوج إليها من خصوم حليف خصمه
وبوصفه رئيسًا لمجلس النواب والكتلة السُنية الأكثر عددًا، يُمكنه التفاوض على المناصب والمكتسبات بأريحية، يساعده في ذلك نظام المحاصصة الذي يبدأ بتوزيع الحصص من الوزير مرورًا بالمديرين والوكلاء وصولًا للموظفين الصغار. هذا الجانب لا يقارن بفوج حماية أو غيره يُمكن تخصيصه لخصوم الحلبوسي، كما أن الإطار التنسيقي لم يعد بالقدرة الكافية لتوزيع الامتيازات بالطريقة السابقة، فهو أحوج إليها من "خصوم حليف خصمه" الذي يمتلك الأكثرية البرلمانية!
عناصر ضعف
لكن الكفة ونقاط القوة لا تقتصر على الحلبوسي، فالتحديات كثيرة، وفي بلد مثل العراق لا يمكن التعويل على القوة الحالية بطبيعة الحال.
يمتلك الرجلان محل الجدل، العيساوي والسليمان، شعبية في مناطقهم على المستويين السياسي والعشائري كما أسلفنا. وفي مجتمع عشائري مثل الأنبار لا يمكن التعويل تمامًا على خيار "المصالح الاقتصادية"، في ظل أعراف واعتبارات أخرى تلعب دورًا في الصراعات السياسية.
شخصية الحلبوسي السياسية، التي يمتدحها حلفاؤه، لا نراها قادرة على امتصاص الصدمات العنيفة. القرارات التعسفية والمتشنجة اتجاه صغار السياسيين والأعضاء والنواب قبل كبارهم، لا توحي بالقدرة على القيادة، بمعنى القيادة لا التسلّط.
لا نرى شخصية الحلبوسي السياسية قادرة على امتصاص الصدمات العنيفة، وهي لا توحي بالقدرة على القيادة بمعنى القيادة، لا التسلّط
تصريحاته مؤخرًا وبعض القرارات والتحركات تؤشر هستيريا غير مبررة، تؤشر بدورها عدم ثقة بالنفس وخوف من الطريق الذي يسلكه.
نقطة أخرى ليست في صالحه، تتعلق بطبيعة حزبه "تقدم" وأعضائه. نستشرف (دون دليل حتى الآن) رغبة لدى الكثير من أعضاء وقيادات الحزب بالتواصل مع الخصوم. نعتقد أن الكثير منهم لا يريدون الدخول في عداء مع السليمان والعيساوي لاعتبارات كثيرة، نفسية وطائفية ومناطقية.
التحدي الجوهري الآخر الذي يواجه الحلبوسي هو طبيعة الشخصيات والقيادات السُنية المنبثقة من مجتمعاتها بعد 2003. فلو افترضنا أنه عالج اهتزازه النفسي الأخير، وأدار بوصلته من سياسة التسلّط إلى القيادة الحكيمة وبمساعدة خارجية، وأتاح للآخرين مشاركته النفوذ، فتجربة اياد علاوي الذي وحّد قادة السُنة عام 2010 ما تزال ماثلة: حين وحّدهم لأجل الوصول إلى السلطة، تركوه من أجلها.
ولأننا بدأنا بالقضاء، يُمكن الانتهاء بالسلطة التنفيذية، وفي سياق الحديث عن نقاط الضعف لدى الحلبوسي، ينبغي تأشير استمرار الضعف الهائل في السيطرة على قرارات الدولة من قبل رئيس الحكومة، الذي يتقلد منصب القائد العام للقوات المسلحة كما يُفترض في الدستور.
سبق للحشد الشعبي بقيادة أبو مهدي المهندس أن اتخذ قرارات عسكرية كبيرة بعد انتخابات 2018، وتحركت قطعات من الحشد خارج مدن ذات أغلبية سُنية، في محاولة لاستمالة أطراف سياسية سُنية لصالح تحالف البناء، أثناء سباق تشكيل الحكومة مع تحالف الإصلاح.
ورغم المآخذ الكثيرة على سياسة حيدر العبادي، رئيس الحكومة آنذاك، وضعفه، إلا أنه واجه ذلك علنًا وكشفه على الأقل. بالمقابل، نرى استقالة عملية من قبل رئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي من وظيفته الأمنية. غياب الدولة شبه التام في أحداث كثيرة مثل الاستعراض العكسري وعمليات القصف، قد يسهل مهمة العائدين الجدد إذا ما تحالفوا رسميًا مع الإطار لمنع الحلبوسي، وبالتالي الثلاثي، من الاستحواذ على الحكومة المقبلة.
تجربة اياد علاوي الذي وحّد قادة السُنة عام 2010 ما تزال ماثلة، فحين وحّدهم لأجل الوصول إلى السلطة، تركوه من أجلها
الخلاصة: تستخدم قوى الإطار كل الأسلحة المتاحة لقطع الطريق على التحالف الثلاثي، ومن بينها سلاح يعاكس خطابها الطائفي، في دليل آخر على تهافت السياسة الطائفية.
قد يصنع العائدان بعض المشكلات لطرف من أطراف "الثلاثي"، وقد يحققان شيئًا في الانتخابات إن كانت مبكرة أو في موعدها؛ لكن استخدام هذه الكماشة قد يحرق مستخدمها كما حصل في المثال السابق، والسبب الأهم هو البوصلة المحلية والإقليمية والدولية، التي لا تدعم من يساند قوى ترفع السلاح بوجه الجميع، والدولة.
نتحدث هنا عن الخيارات والاستخدامات السياسية والاحتمالات المنتظرة في ملف عودة المطلوبين؛ وفي والوقت ذاته استكمالًا لحراك دولي/محلي سبق وأن تحدثنا عنه.