04-مارس-2019

بعد الاصطفاف الطائفي المحموم بين الأطراف السياسية يحاولون اليوم أن يتقاسموا المناصب بهدوء (فيسبوك)

في أمثالِنا الشعبية نقول "ماكو دخّان بلا نار"، ويبدو لي متسقًا ما نشرته إحدى القنوات المحلية عن عودة بعض المطلوبين للقضاء "الهاشمي والعيساوي والنجيفي وعلي السليمان"، وتصفير قضاياهم بصفقة سياسية مع واقع العمل السياسي الجديد في العراق. فمن كان يصدق أن يجلس الخنجر في وسط العاصمة بغداد، بل ويُرشح وزراء في كابينة الحكومة الجديدة، بعد سنوات من تبادل تهم التخوين بينه وبين أطراف العملية السياسية؟.

من كان يصدق أن يجلس الخنجر في وسط العاصمة بغداد بل ويُرشح وزراء في كابينة الحكومة الجديدة بعد سنوات من تبادل التخوين بينه وبين أطراف العملية السياسية

وبغض النظر عن صحّة ذلك الخبر من عدمه، وهو ما ستكشفه الأيام المقبلة، يظهر أن السياقَ ذاتهُ، فعنوان المرحلة السياسية الحالية هو التطبيع واللا مركزية، وما يهمنا هنا هو الجزء الأول من العنوان.

يُراد لهذه العملية السياسية أن تُعيد تطبيع العلاقات مع الشارع العراقي بعد ما شهدته الساحة من تظاهرات في العديد من مناطق الوسط والجنوب، ومقاطعة شعبية واسعة للانتخابات النيابية الأخيرة. إن سخط الشارع بدا كجرس إنذار لكل التيارات الفاعلة، خصوصًا بعد تظاهرات البصرة التي لم تقودها حركات سياسية أو قيادات معروفة كما حصل في بغداد، حيث تفرد الصدريون والقوى المدنية المتحالفة معهم في ساحة التحرير طيلة السنوات القليلة الماضية، وهم بدورهم عكفوا على العمل السياسي بعد أن حصدوا المرتبة الأولى في القوائم الفائزة بالانتخابات، ما يجعل التفاهم السياسي ممكن، بعكس ما حدث في البصرة وبقية المحافظات الجنوبية، حيث لا قادة معروفون، ولا جهات يُمكن التفاوض معها. لقد لقنت البصرة الأحزاب درسًا من غير السهل نسيانه، وحدث في هذه المحافظة ما يَصعب تخيله من عمليات حرق لأحزاب وفصائل في الحشد الشعبي كانت في القريب العاجل "مقدسة" بعين الناس، لكنها الحروب الطائفية وحتمية نتائجها، تفعل فعلها.

اقرأ/ي أيضًا: عمق العراق العربي.. هل من بديل؟

تستطيع مراقبة سلوك الكتل والأحزاب وصولًا لتحركات رؤساء الجمهورية والوزراء والنواب وباقي الزعامات على جميع الأصعدة، وخاصة الإعلامية، بما في ذلك تطبيع العلاقات مع "الإرهابيين سابقًا" بحسب وصف القادة السياسيين من الطرف الآخر لفهم ما يُريده الأقطاب، ولعل الرسائل الخارجية كانت سببًا رئيسيًا في إعادة ترتيب مقاعد الجلوس.

ليس صحيحًا أن العراق انفتح على الدول العربية في عهد رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، بل أن الدول العربية هي من أغلقت الباب بوجه العملية السياسية الجديدة ما جعل الأخيرة تفقد محيطها وعمقها بل وشرعيتها المعنوية، فضلًا عن تدهور الأوضاع الأمنية، ودعم بعض الدول العربية في وسائل الإعلام لخطاب المعارضة ـ العنيف في بعض الأحيان ـ طيلة السنوات السابقة. أقول، رغم الفاعلية الكبيرة التي تمتلكها إيران في العمل السياسي العراقي إلا أن الانفتاح العربي الجديد على العراق قوبل باندفاع كبير من قبل أطراف العملية السياسية، ويُمكن تتبع الزيارات التي يقوم بها مسؤولون حكوميون "بعضهم محسوب على إيران"، ويُفسر بعض المحليين ذلك السعي العراقي "الشيعي" إلى طي صفحة الماضي مع الدول العربية بأنه نتاج حالة الضعف والمحاصرة التي تعيشها إيران، ويُمكن الاعتقاد أن إيران تُحاول أن تصنع من العراق جسرًا لتخفيف حالة الشد والاحتقان الموجودة في المنطقة بين إيران والعرب. ويُمكن الاعتقاد أن إيران ليس لديها ما تخشاه في الانفتاح على الدول العربية ما لم تصل العلاقات إلى الحد الذي يضر بالمصالح الإيرانية السياسية والاقتصادية خاصّة في جنوب العراق، وظني أن تلك الأسباب المختلفة يُمكن جمعها مع بعض للخروج بتفسير ورؤية شاملة لأسباب "قبول" العراق للانفتاح العربي، وللعرب أسبابهم الواضحة طبعًا.

لكن ما يتوجب التركيز عليه في هذا الصدد هو مسألة "الشرعية" التي عانت الطبقة السياسية ما بعد 2003 أشد معاناة منها، حتى استجدت الاعتراف من الداخل والخارج، وفعّلت الخطاب الطائفي مرارًا عل الداخل يَسندها بوجه التدافع الخارجي. وكعادة الحروب الأهلية لا بدّ من مسار يذهب إليه الأطراف المتصارعون بعد انتهاء المعركة، ورغم أنني لا أميل إلى تسمية الحرب التي اندلعت بعد سيطرة تنظيم داعش على محافظات عراقية بالأهلية "لعدم أهليتها" إلا أنها وفق المنظور السياسي والتاريخي لا بد لها من الخضوع للسياقات المعروفة ما بعد الحروب الأهلية. إنها حربٌ بين جماعة تمسك الدولة وفقدت زمام السيطرة، وأخرى وقعت ـ بعد سلسلة من الأحداث ـ رهينة تنظيم دولي غير واضح المعالم والنشأة والتمويل كان أشد قسوة عليها من بقية "أعدائه" عمليًا.

لا بد من سياق لمصائر الحروب الأهلية مثل الحرب اليوغسلافية والإسبانية والأمريكية  تنتهي به؛ لكن العراقية أقرب إلى اللبنانية منها إلى الإسبانية مثلًا، حيث ينتصر طرفٌ "فرانكو" على آخر ويستولي على الحكم ويعدم المعارضين. فالعراق يسير نحو "اللبننة" ونموذجها بعد الحرب الأهلية كما سار بنظام المحاصصة الُمكنى بالديمقراطي. حيث العفو عن الجرائم المرتكبة من كافة الأطراف بعد اتفاق الطائف برعاية سعودية، كذلك تجري الأمور في العراق، وأميل إلى ترجيح الكويت بلعب دور السعودية مع الأطراف العراقية، من حيث الزيارات غير المتسقة قبل وبعد الانتخابات من قبل الزعامات السياسية، ومؤتمر إعادة الإعمار الذي رعته الكويت، وكذلك الهمسات التي تشير إلى الكويت في غرف السياسة المغلقة.

وبغض النظر عن الدولة الراعية أو العراب لـ"عملية مصالحة غير معلنة"، فوجود الخنجر ومن مثله في بغداد لا يجعل مشهد عودة الهاشمي والنجيفي والعيساوي والسليمان إلى العراق والمشاركة في العملية السياسية صعبٌ أو مستبعد.

لقد جرى إخضاع الأطراف السُنية المُعارضة للعملية السياسية وإدخال الغالب منها في النظام ترهيبًا وترغيبًا. وباتت أشد الزعامات السنية معارضةً لهذه العملية تُظهر مرونةً بعد مدة وجيزة من سقوط المحافظات بيد داعش، واتضاح المشهد على أرض المعركة، والبوصلة الدولية ووجهتها في دعم الحكومة العراقية بمواجهة التنظيم؛ ومع استنزاف الطاقة الشيعية بشريًا واقتصاديًا، وتدمير المناطق السُنية وتشريد أهلها، وتسارع التظاهرات المطالبة بالحقوق والخدمات، سيضطر الطرفان لتهدئة الأوضاع السياسية. ذلك من الحتميات. يتنازل الطرف الشيعي من أجل الحصول على شرعية الدول العربية والعالمية؛ ويدخل الطرف السُني المرفوض سابقًا من بغداد إلى المعادلة كضريبة حتمية للاعتراف العربي والعالمي بالعملية السياسية العراقية الجديدة من جانب، وبعض قادة الشيعة السياسيين من جانب آخر، والشروع بعملية الإعمار المفترضة.

إنها حقيقة مؤلمة أن يشعر المواطن العراقي بانقضاء شطر عمره بين المجازر وضياع الحقوق وفقدان الأحبة ليخبره أحدهم أن ذلك ذهب سدى!

نعيش الآن لحظة 2003. سيتم تصفير العداد لتبدأ العملية السياسية من جديد مع تجاوز السنوات الستة عشر بمصائبها وخرائبها. وربما هي حقيقة مؤلمة أن يشعر المواطن العراقي بانقضاء شطر من عمره بين المجازر وضياع الحقوق وفقدان الأحبة، ليخبرك أحدهم أن ذلك ذهب سُدى.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الكُفر بالدولة في العالم العربي.. العراق نموذجًا

سوق "المحاصصة الأمريكية" في بلادنا