واحد من أبرز مظاهر السياسة والمجتمع في عراق ما بعد 2003 هو التمييز ما بين طبقة "السادة" و"العوام"، والعوام هنا تبدو أحيانًا لفظة مخفّفة عن "العبيد". وإن كان السياق العام يذكّر دائمًا بأن الجميع مواطنين متساوين في الواجبات والحقوق، إلا أن تمثيلات السلوك الاجتماعي تكشف شيئًا آخر.
هناك نمط جديد ما بعد 2003 وسّع من استثمار الرأسمال الرمزي الهاشمي إلى حدود الاستيلاء على الفضاء الاجتماعي بشكل شبه كامل
و"السادة" المقصودين هنا هم الأفراد الذين ينتمون الى السلالة الهاشمية، والذين يرجعون بالنسب الى أولاد علي بن أبي طالب. وهؤلاء طائفة واسعة من العائلات في الشرق الأوسط، ابتداءً من الهند وليس انتهاءً بمصر والسودان والمغرب العربي.
ولهؤلاء الهواشم أدوار مختلفة بحسب طبيعة كلّ مجتمع، ولكنهم تاريخيًا في العراق ارتبطوا بدورين، الأول؛ هو الفضاء الديني، فغالبًا ما يمنح اللقب الهاشمي لطالب العلوم الديني دفعة أكبر للارتقاء حتى الوصول إلى المراتب العليا. أما الدور الثاني فهو بين صفوف المجتمع، من خلال العشائر المنتسبة للهاشميين، ولهؤلاء اعتبارات أكبر من الاحترام والتوقير، قياسًا بغيرها من العشائر "العادية".
تاريخيًا كان للقب الهاشمي ثقله المعنوي، داخل المجتمع وعند حامل اللقب، فهو يمثل حصانة أخلاقية عن الزلل والخطأ، ولهذا نرى حضور "السيّد" وهو لقب يحيل إلى الهاشمي في العراق، في حلّ النزاعات العشائرية، فلا بدّ لكلّ مجلس من مجالس فضّ النزاعات من سيّد يلقي الكلمة الأخيرة الفصل.
إن الاحترام والتوقير الفائق للسادة الهواشم في البيئة الجنوبية الشيعية وفي يبئات المجتمعات السنّية والكردية والتركمانية العراقية جعل الكثير من القيادات السياسية والاجتماعية في هذه البيئات من الهواشم، وكان من المناسب تمامًا بسبب هذه الثقافة الاجتماعية الموروثة، أن يكون نظام الحكم، لحظة تأسيس الدولة العراقية، هاشميًا. فالملك الهاشمي هنا لديه صلات قوية عابرة مع أغلب الفئات المتباينة من جهة الطائفة والقومية.
وحتى هذه اللحظة التي نكتب بها هناك العديد من العوائل والأفراد في العراق من المنتسبين إلى البيت الهاشمي ما زالوا يحافظون على الأدوار التقليدية المتوقّعة منهم، باعتبارهم قوّة عدالة وضبط أخلاقي من داخل المجتمع وبين ظهرانيه.
ولكن هذا لم يمنع من تكوّن نمط جديد ما بعد 2003 وسّع من استثمار الرأسمال الرمزي الهاشمي إلى حدود الاستيلاء على الفضاء الاجتماعي بشكل شبه كامل. فداخل نظام سياسي وإداري متهالك تجد "السادة" منتشرين في كلّ مفاصل الدولة، من القيادات السياسية والدينية العليا، إلى أصغر مدير ناحية أو مدير بلدية في الجنوب، وهم استثمروا الرأسمال المعنوي للقب الهاشمي في هذه المراكز، لهذا هم يتحمّلون وزر توريط هذا اللقب في المفاسد والمخالفات وحتى الجرائم.
أبرز مثال عن الاستيلاء على الفضاء العام، هو ما حصل خلال الزيارة الأربعينية الأخيرة من إعادة نشر لفيديو مجلس عزاء حسيني حاشد، وفيه المقرئ والمنشد يؤدي قصيدة شعبية تنال من المرجعية الدينية العليا للشيعة في النجف. كان الكلام في هذه الإنشودة الدينية صريحًا ومباشرًا، وافترض الكثيرون أن هذا المجلس في العراق، واستغربوا كيف لا ينالهم عقاب، ثم تبيّن أن المجلس هو للشيعة في إحدى المدن الأمريكية، ولكنهم يتبعون عقائديًا مرجعًا يقيم في النجف، ويعبرون عن قناعات هذا المرجع ومواقفه.
لم يحدث أي ردّ فعل لا من المرجعية في النجف، ولا من المجتمع، لأن الجميع فهم أن هذا شأن بين السادة، ومن الأفضل أن لا يتدخل المجتمع فيه.
الأمر نفسه كان يحدث مرّات عديدة في صراع التيار الصدري مع المجلس الأعلى، وكلاهما حزبان يقودهما سيّدان هاشميان، وقد يكتب عضو متحمّس في أحد الحزبين كلامًا جارحًا للطرف الآخر على فيسبوك، ولا يحدث أي شيء، ولكن إن كتب شخصٌ من العوام [وهنا العوام كناية عن الشخص غير الهاشمي ومن خارج هذين الحزبين] ذات الكلام فإنه سيعرّض نفسه لعقاب قاسٍ.
اليوم يتحكّم السادة "العلّام" بالسلطة والمعارضة في العراق ويديران الفضاء العام أما الشخص "العامّي" فهو مطالب بدور واحد؛ أن يكون متفرّجًا
في سنوات الاحتراب الطائفي، وصراع هذين الحزبين على الأرض كان أحد الأقارب يتابع نشرة الأخبار على التلفزيون، وفيها أخبار عن حرق مقرّ لأحد الحزبين "الهاشميين"، ودار كلام بين هذا القريب وأخيه، وهما على طرفي نقيض في تأييد الحزبين، وتصاعد الكلام حتى غدا ما يشبه العراك، وهنا جاءت أمهم العجوز راكضة مفزوعة من المطبخ وهي تصيح بهم محذرة: يمه ذولي سادة علّام بيناتهم.. إنتم ليش داخلين بالنص؟!
اليوم يتحكّم السادة "العلّام" بالسلطة والمعارضة في العراق، ويديران الفضاء العام، أما الشخص "العامّي" فهو مطالب بدور واحد؛ أن يكون متفرّجًا.