إن العلماني المعاصر سوف يكتفي فقط بالقول أن الإيمان الديني "خطير سياسيًا". ويتمثل هذا الخطر في تجاوز الدين لحدود "الإيمان الخاص"، والامتداد إلى استعمال "مؤسسات كهنوتية" من أجل فرض "أغراض سياسية" بعينها. ما يطالب به رورتي أن يتفق "المؤمنون وغير المؤمنين على اتباع سياسة تتمثل في أن تعيش وتترك الآخرين يعيشون". فتحي المسكيني، الإيمان الحر أو ما بعد الملّة.
لا أعرف بالضبط سر الحكمة من هذه العدوانية والبغضاء ضد الذين لا يتماثلون معنا في الهوية. ينبغي لكل منّا أن يسأل نفسه هذا السؤال ولو مرة واحدة في حياته: ما المصلحة من عدوانيتي هذه، هل حقًا من أجل مبادئ سامية أم هي ترجمة لأنانيتي؟ أم تعبيرًا رمزيًا لمخاوفي وشكوكي وقلة ثقتي بنفسي؟ الجميع يريدك أن تحترم هويته الدينية والمذهبية والقبلية والقومية وغيرها.. ما هذا الإحساس المرهف الذي جادت به السماء فجأة على الناس؟ هل حقًا نحن مرهفون لدرجة أننا نحترم مشاعر عقائد بعضنا البعض، أم أن هناك شيء يتوارى في الظلال؟
بعض المتدينين يتمتع بحساسية عميقة تجاه المعاني المضمرة التي يتصور أنها تستبطن نوعًا من نقد الدين أو على الأقل لا تنسجّم مع هويته الدينية
تصاب الجماعات الدينية من مفهوم الإلحاد بنفور وعدوانية شديدتين، لكنها لا تذهب أبعد من هذه الضغائن وتسأل نفسها ما السبب الجوهري وراء الإلحاد؟ استخدام الدين في غير محله؟ تحويله إلى سلطة أخلاقية مستبدّة؟ تفريغه من محتواه وإحالته إلى مجرد شعائر طقوسية شعبية؟ التمذهب الطائفي على أساس سياسي؟ تدخّله بالسياسية من دون نظرية سياسية واضحة المعالم؟ ولأنها أسئلة إشكالية، فسيتم طمرها والقضاء عليها عن طريق عملية استبدال مشينة و تعويضها بالضغائن بدلًا من الاستعمال النقدي للعقل.
يرادفون الإلحاد بالتحلل والإباحية وهم يعرفون جيدًا ما ينطوي عليه هذا الحكم من تعسف وتبرير، ذلك أن هذا الإباحي الفاسد خلقيًا لا يفسد من حيث كونه ملحدًا بل من حيث كونه فاسدًا أولًا وبالذات أن الإلحاد ليس جهازًا تبريريًا أخلاقيًا للاغتصاب مثلاً ولا بابًا شرعيًا مفتوحًا لجواز هتك الحرمات هذه من ضمن التقليعات التي تقوم بترويجها الجماعات الدينية بحجة الخوف على العقيدة، ومن ثم ولكي تعادل الكفة وتستبق أي رد فعل مماثل، تسارع فورًا للتبرير للجماعات الإسلامية التي هتكت مؤسسات الدولة، وازدهر الفساد بشكل غير مسبوق قي حكمها لتقول بضربة واحدة أن هذه الجماعات لا تمثل الإسلام.
وحده الإلحاد هو المتهم علمًا أنه ليس ظاهرة اجتماعية ولا سياسية تستحق النظر. نحن لا نستكره الفجور إلا إذا كان خارج ملتنا وبخلافه هو لا يمثل الملة! هكذا، نضحّي بأنبل مصادرنا الخلقية النبيلة (العقل) ونغتاله ونقذف به في زنزانة الجهل لكي تبقى ضغينتنا فعّالة وتلهم تبريراتنا المضحكة، وفي نهاية المطاف قد نكتشف أننا لا ندافع عن دين واحد، بل آلهة متعددة، آلهة الأهواء الشخصية والعادات المتأصّلة. إن بعض المتدينين يتمتع بحساسية عميقة تجاه المعاني المضمرة التي يتصور أنها تستبطن نوعًا من نقد الدين أو على الأقل لا تنسجّم مع هويته الدينية.
لذلك تجده يتمعّن بالنصوص جيدًا قبل أن يتورّط في التفاعل معها! حتى تعليقاته تنطوي على معارضة غير مُعلَنَة لكن بطريقة ملتوية كأن يكون مثلاً أن يستقطع عبارة معينة من النص المقروء ليتفق معها ويشعر بالطمأنينة. إنها معركة أشباح تحدث عند أولئك الذين حبطت أعمالهم وقلت بضاعتهم الروحية وفقدوا الثقة بأنفسهم تمامًا لدرجة أنهم لم يتبق لهم سوى تلك الأشباح. هذه الحساسية تضمر وتذوب ولا يبقى لها ذكر حين يتعلّق الأمر بقراءة نصوص الدين التاريخية، وأعني بها الروايات.
بالطبع ليس بمقدور الجميع القيام بهذه المهمّة، لكن على الأقل أصحاب الحس العميق الذين يتواجدون هنا، وعليهم ألا يغفلوا هذه الحقيقة: إن الطاقة التي يستثمرونها للتمعّن في نصوص بعض "العلمانيين" هي نفسها التي تعينهم في قراءة التراث بنفس النظرة الفاحصة. لست في وارد المناكدة أو المزايدة على أحد أو تفضيل فئة على أخرى، فبالنتيجة لست شخصًا مهمًّا، ولا تستهويني فكرة الضغائن، فالحرية إما أن تكون خالصة أو لا تكون، أي خالصة وحرة من كل ضغينة. ما يدفعني هو شيء واحد لا غير: متى نكفّ عن حرب الأشباح هذه؟ في هذه الحرب نخسر ثلاثة أرباع أرواحنا ويفوتنا الكثير.