تتصف كل الأنظمة الاستبدادية، بأنها كلما ازدادت جهلًا وفشلًا في إمكانية الإعلاء من شأن الأمة التي تتحكم بمصيرها، تزداد في ذات الوقت براعةً في عمليات التفنن بكل المظاهر الهدامة التي لا تؤدي إلا للقهر المزمن والمستقبل المجهول. ولكل نظام من هذه الأنظمة الاستبدادية، أدواته الفعلية الناجعة على اختلاف منابعها، سواء في حالات الهدوء النسبي للأوضاع العامة، أو إبان المعرقلات التي يتعرض لها من قبل المعارضة التي تتربص به دون أن يرف لها جفن بالمطلق، سعيًا لاستغلال ما يمكن استغلاله من ثغراتٍ قد تحدث بأي لحظة سهوًا بفعل تخبطات السلطة العليا وحواشيها وكوادرها الحزبية المسلحة التي تمثل لرجالاتها روح النظام.
استبدل شرط الكفاءة والضمير السوي في العراق بشرط العمالة والولاء المطلق لعرابي الأجندة الخارجية
النظام السياسي الحاكم حاليًا في العراق، لا يوصف إلا بكونه وجه آخر من أوجه الاستبداد السابق. فعملية غزو العراق على يد الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2003، هي مسرحية استعمارية عنوانها المختصر: (القضاء على دكتاتورية الرجل الواحد، وصناعة دكتاتورية البيوتات المذهبية). فقد تحوّلت الدولة العراقية بسرعة جنونية، من دولة المخبر السري إلى دولة الأسماء الحركية المريبة والعقائد الفقهية، وذلك جاء على حساب دولة المؤسسات الرصينة. مما أدى إلى استبدال شرط الكفاءة والضمير السوي بشرط العمالة والولاء المطلق لعرابي الأجندة الخارجية على حساب العقيدة الوطنية العليا. وكنتيجة حتمية لهذا الأمر، بات العراق أكبر مقبرة جماعية للأحياء، والأنظمة التي تعاقبت على حكمه هي السبب.
يقول نيقولا ميكافيلي [ت 1527م] في الفصل الثامن من كتابه ذائع الصيت (الأمير)، فيمن بلغوا الإمارة بالإثم والغدر: (وحيث أنه من المستطاع بلوغ بعض الأفراد مرتبة الإمارة بوسيلتين لا يمكن نسبتهما إلى الفضيلة أو إلى الحظ فلن أهملهما، وإحداهما جديرة بالإسهاب لو كان البحث قاصرًا على الجمهورية، أما الوسيلتين فأولاهما أن يبلغ الفرد مرتبة الإمارة بالغدر والخديعة والإثم، وثانيتهما بلوغ فرد مرتبة الإمارة رغبة من أهل وطنه في رفعته). وهذه الأحزاب الإسلامية الحاكمة في الوقت الراهن، وبعض التكتلات والشخصيات المدنية، بلغت مرتبة الإمارة وتسيدت على الشعب العراقي بالوسيلة الأولى التي ذكرها ميكافيلي، ألا وهي وسيلة الغدر والخديعة والإثم. فقد قامت هذه الأحزاب الطائفية بسرقة العراق وتحطيم مجده العظيم بفضل الغزو الأجنبي الذي لولاه لما سيطرت على الثروات الوطنية وأرواح الملايين الصامتة، ولبقيت تتآمر على البلاد وأهلها من عواصم البلدان الغربية والعربية التي تدّعي مقاومتها عسكريًا في الآونة الأخيرة، كما كانت في السابق، لكنه الغدر والفراغ العقلي وما يفعل بأصحاب النفوس الوضيعة والضمائر المخربة.
إن النظام المحاصصاتي المستورد، يعرف جيدًا بأن لا خلاص لشعب العراق من طغمته المتخلفة، إلا بالحرية غير المشروطة بشروط دينية أو سياسية محددة. وهذه الحرية لن تؤخذ بالمداولات والمسرحيات الفارغة على وسائل الإعلام التّابعة له بين (الشيطان وظله)، بل تؤخذ بالصرامة والكرامة التي افتقدها جل من حكم العراق بعهده التعيس هذا، أثناء التسول على أبواب الدول الكبرى أيام المعارضة المكوناتية ومؤتمراتها الهابطة. يا ويلنا كم كنا نوهم أنفسنا بأننا تخلصنا من جرثومة عبثت ببلادنا ومصيرها، وتعافت أدمغتنا أخيرًا، حتى غزتنا آلاف الجراثيم الطائفية المتمثلة بأزلام الإسلام السياسي بأفكارها الهدامة والحاقدة. يا لطيبتنا وسذاجتنا، طلبنا باستجداء من السراق والخونة والعملاء، بناء وطننا وإحياء تراثه وفرصه، ولم نحصد سوى الخيبة والعفن الشعاراتي المتوارث.
وإلحاقًا لما سبق، إذا شبع السلطان وأوغل في الظلم والعنجهية، وجاع المواطن وغرق في التعاسة والقدر الأسود، يتوجب على المواطن الاقتصاص من السلطان وحاشيته، ولا يقتنع بكلام رجال الدين ووعاظ السلاطين الذين يخدرونه بحكمتهم الخبيثة الشهيرة (الناس فقراء في الدُّنيا لا يهم)، لأن عهد النفوذ الغادر وشيوع ظاهرة الجاه المزيف وتكدّس الأموال من الكسب غير المشروع، عند قطب دون غيره، لن ينتهي بالصمت والبكائيات.