ها هم يضحكون: إنهم لا يفهمونني؛ لست الفهم الذي يصلح لهذه الآذان.. ليس حقدي، بل قرفي هو الذي يلتهم حياتي فيهم! آه، لقد غدا العقل بدوره ممّلًّا بالنسبة لي منذ أن وجدت الرعاع أيضًا ذات عقول! وأدرت ظهري للحاكمين عندما رأيت ما الذي يسمّونه حكمًا: السمسرة والمساومة على السلطة- مع الرعاع! نيتشة، هكذا تكلّم زرادشت.
قال علي بن أبي طالب "الناس ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجئوا إِلى ركنٍ وثيقٍ". والرعاع هم موضوع لطالما أجهد الأنبياء والفلاسفة والعلماء والفنانين وعموم المثقفين. ولكل من هؤلاء المفكرين كانت له وقفة حول الرعاع وحياتهم المليئة بالأحقاد والضغائن. حياة الرعاع هي حياة الضغينة، والحسّد المقنّع، والفجور بالخصومة، وفقدان العيش. إنه ليس عيش تدبير الذات وتحقيق إمكانياتها "وإنّما هو عيش وفق قطيع لا يرى أبعد مما هو عليه، ولا يعنيه بتاتًا ذلك الآخر الذي يشاركه العيش" حسب تعبير الباحث المغربي عبد العزيز بومسهولي.
حرية الأحرار هي بحث دؤوب عن إمكانياتهم الخاصة والانعتاق من سجن الهوية المفروض سلفًا
حتى لو طالبوا بالحرية، فهم يتصورونها حرية متحررة من المسؤولية. لا يوجد الرعاع إلا وهم معذبون بالضغائن، ولا تسكن نفوسهم إلا بمزيد من النسخ المتشابهة معهم. لا تفرّد وسط القطيع، لأنه عيش يأبى الوجود، و"ليس في عيش القطيع وعي بالذات أو اعتراف بالآخر" بتعبير بومسهولي، فبهذه الوثبة يحكم القطيع على نفسه بالموت وبالاختفاء كليًا. حرية الأحرار هي بحث دؤوب عن إمكانياتهم الخاصة، والانعتاق من سجن الهوية المفروض سلفًا. الرعاع لا وجود لهم؛ أنهم محض كائنات صماء، تماثل الصخر، والشجر. إنهم بلا عالم، فهذا الأخير ليس معطى، وإنما يكد الأحرار ليظهروه إلى منطقة النور. الأحرار منارات، مصابيح مضيئة، أينما يسلطوا نورهم تتوهج عتمة ما. إنهم بروق تلتمع فيها العوالم وتظهر للوجود. فليس ثمة لقاء بين الرعاع والأحرار.
الرعاع عبارة عن هويات ثابتة لا تأويل فيها، ولا يمكنها العيش إلّا بالتذكّر. فحين نجد هوية ما تحولت إلى محض سردية تشرعن الحنين إلى الماضي، فهي هوية قد شاخت ومات الجزء الأكبر منها وليس لديها شيء ما تقدمه نحو المستقبل، أي البحث عن إمكانيات جديدة. فلا يبقى منها سوى تلك الذكرى ومحاولة الدفاع عنها بطريقة نضالية، تبرهن بنفسها، دون الحاجة إلى تعريتها من الخارج، على أنها فقدت شيئًا عزيزًا عليها يصعب استرجاعه إلا بالصراخ والعنف الرمزي والفعلي.
إنها تطلب "الحوار" كنوع من الوقيعة والمكيدة بالخصم ليس إلا. تطلب الحوار للتنكيل وتفريغ طاقتها السامّة. والقبول بهذا الحوار هو قبول أحمق بكل المقاييس. قوة الجدال لا تدل بالضرورة على النباهة وعمق الفكرة. بل قد تكون إزاحةً عنيفةً لحالة الشك التي تطوف في اللا وعي، ما يجعلها تكتيكًا جيدًا للهروب من المكاشفة، وحالة من حالات الاحتضار أمام وقع الصدمة. وأكبر دليل على ذلك هو أن الرعاع يحترفون الجدل! حتى كثرة الأسئلة، التي يغلب عليها الطابع الامتحاني والاستفزازي، ليست دوافعها بريئة لاستشكال قضية ما، بقدر ما تحمل في العمق هروبًا مًنَظَّمًا من الحوار الحقيقي.
إنها صراع من أجل البقاء وكفاح عنيف ضد هوية لم تعد تمنح شيئًا من المعنى لمعتنقها، وفقد صلاحيتها ومصداقيتها أمام نفسها فلم يبقَ لها سوى التهكّم والتذاكي والحذلقة المنطقية. إن افتعال التهكّم من قبل الرعاع في مثل هذه الحالات هو محاولة لتقليد نسخة سقراطية مُشّوَّهَة سرعان ما تغدو مفضوحة أمام نفسها، ذلك أن الرعاع لا يحتاجون إلى كلفة حجاجية لفضحهم: إنّهم عين الفضيحة. فمن غير المجدي والعقلاني أن يمنح العقلاء فسحة لهذا الجدل العقيم الذي يسمح لمثل لهؤلاء أن يترجموا ضغائنهم على شكل "محاورات" مُفتَعَلة تحمل بصمات الغل والعدوانية وروح الانتقام. الحوار، مع "الذات" و"الآخرين"، حالة نبيلة ونادرة لا تحدث إلا بين هؤلاء المهمومين باكتشاف وجودهم الخاص، وما عداها لجاجة تثير الضيق.