يمتلك العراق وفي مدنه كافة تراثًا تاريخيًا وأثريًا ومعماريًا زاخرًا، يعود في أصله إلى أزمان ودول خلت، تعاقبت على حكمه أو السيطرة عليه. ولكل زمن خصائصه وميزاته، فمنه السومري والآشوري والبابلي والإسلامي العباسي.. الخ، والتي تركت بصمتها في عمق التراث الحضاري العراقي، وبسببها امتلك العراق وجودًا معنويًا، استمد عمقه من كونه أقدم الحضارات الإنسانية، وكما كانت بغداد عاصمة العالم الإسلامي أجمع أيام الإمبراطورية العباسية، واستمرت على هذا المنوال لقرون عدة، كانت فيها محطة أنظار العالم في ذلك الوقت، ولا تختلف عنها مدن العراق الأخرى، مثل النجف والبصرة والموصل وكربلاء.. الخ، فلكل مدينة بصمتها وتراثها الخاص بها، الذي يعود بالأخير إلى كونه أساسًا من أساسات الهوية العراقية.
هدف الهدم الذي يراد لسوق الحويش ومدينة النجف القديمة ومدن عراقية أخرى هو لمحو أجزاء من ذاكرة العراق الوطنية
ما يثير الدهشة والغرابة ولربما الحزن، أنّ أبناء هذا الإرث الحضاري الكبير، ولاسيما مؤسسات الدولة والقائمين على إدارة المدن العراقية، قد أوغلوا في إهماله وتدميره وتهديمه، تحت حجج ومبررات التطوير والاستثمار وتوسعة المدن، إلا أنهم غاب عنهم أو بالأحرى تجاهلوا، أن الاستثمار في هذا الإرث هو من بين أهم الاستثمارات، ولنا في تجارب العديد من الدول التي يمكن الاستعانة بها لهو خير دليل، ولا يهتم من يقومون بهذا الأمر، إلى أن هذا العمل يؤدي إلى خسارة العراق وفقدانه لتراث كبير متراكم منذ قرون عدة، ولا يدركون أن هذا الإرث يعد رافدًا من روافد الذات العراقية الجريحة -استعرت هذا التعبير من سليم مطر-، وفي الشأن ذاته يشير الروائي والكاتب العراقي "أحمد سعداوي" عبر حسابه في "فيسبوك"، بالتزامن مع ما تشهده مدينة النجف القديمة من عملية تهديم على يد العتبات بحجة توسعة صحن مرقد الإمام علي، إلى أنّ "إهمال وتعمد إتلاف الأماكن التاريخية والتراثية، كما يحصل في طول البلاد وعرضها، هو جزء من عملية التخريب للهُوية العراقية، ومحو لأجزاء من الذاكرة الوطنية، ومحو للأواصر النفسية والعاطفية بين الناس، والأرض، والتراث، والهُوية".
وفي سياق متصل أقول إنّ الدولة كائن مادي ومعنوي، فالركن المادي يقوم على أساس احتكار العنف، وتأمين ضروريات البقاء، أما الركن المعنوي فلا يقل أهمية عن الأول، بل لا قيمة للركن المادي دونه، وعناصر هذا الركن -المعنوي- تتمثل بالهُوية والقيم والثقافات والتراث والمعمار والمدن التاريخية والقديمة، إننا نتذكر أسلافنا وما قدموا عبر ما يتركونه من آثار، جلها ترتكز على الجانب المعنوي، فنحن اليوم نتذكر العصر السومري أو الآشوري أو العباسي، عبر تركه لآثار شاخصة حتى يومنا هذا بمختلف المدن العراقية. ونحن اليوم لا نتذكرها لأنها كانت في يوم ما لها شأنها وقوتها المادية فحسب، بل بما خلفته من إرث كبير تتناقله الأجيال المتعاقبة، على أساس أنه جزء رئيسي من ذاتها، فلو لم تكن هذه الشواخص موجودة، هل يمكن أن يستمر هذا التأثير والتذكر؟ إن هذا الإرث عبارة عن كتاب يمكنك قراءة محتواه بمجرد النظر إليه، وستعرف أن أسلافك في زمن مضى كان لهم شأنهم، وبأنك لست طارئًا على الحضارة الإنسانية.
أكتب الكلام أعلاه بالنظر إلى ما تشهده مدينة النجف القديمة، من عملية توسعة لصحن مرقد الإمام علي (ع)، وسيكون على حساب هدم جزء من أماكنها التاريخية والحضارية مثل سوق الحويش الذي يوصف بأنه شارع المتنبي الثاني في العراق، لما يضمه من مكتبات زاخرة وعامرة بالكتب، وفي شتى ضروب العلم والمعرفة، ويرتاده القراء وطلبة العلم ومن مختلف الدول، وعمره قرابة سبعة قرون، وكما تشمل بيوتات ومواقع أخرى قديمة، تقوم بها العتبات في النجف، من أجل توسعة صحن المرقد، والسبب كما تقول العتبات هو لأجل امتصاص زخم الزائرين في أيام المناسبات الدينية، وتطوير المدينة المحيطة بالمرقد.
أبدت بعض النخب النجفية والعراقية عمومًا المهتمة بهذا الشأن، اعتراضها الشديد على ما يجري من تهديم وتجريف تشهده النجف، إذ ترى أن التوسعة وعلى هذه الشاكلة، ستؤدي إلى محو جزء مهم من تراث المدينة، وهو ما يعمل على إحداث جرح وثلمة تثلم بها الذاكرة والهُوية العراقية. وفي الشأن ذاته ذكر الباحث في الشأن الديني الشيخ (عز الدين محمد البغدادي)، عبر صفحته على "فيسبوك"، أنّ التوسعة غير مفهومة في ظل مدينة تعد أساسًا منكوبة من ناحية البنى التحتية وغيرها من المجالات، بدليل غرقها منذ أيام بسبب الأمطار، وفي الوقت ذاته أن هذا الإرث لا يقتصر على أهل النجف وحدهم، فهو بالأخير يشمل الشعب العراقي أجمع، ومن ثم، فهو يصب في صالح مخيال هذا الشعب، فالمتخيلات -استعارة من صاحب كتاب الجماعات المتخيلة بندكت أندرسن- هي الأساس الذي بالاستناد عليه يتم صهر الجماعات التي تقطن الجغرافيا العراقية في بوتقة واحدة.
أما حجج التطوير والإعمار، لا تكون على حساب هدم المدن التاريخية والقديمة؛ فهنالك طرق عدة منها اللجوء إلى أصحاب الاختصاص من المعماريين والمهندسين، الذين يقومون بدراسة وضع المدينة أو الموقع المراد تطويره، ومن ثم يقومون بوضع الخطط والرؤى اللازمة لذلك، التي تضمن الحفاظ على تراثنا التاريخي من جهة، ونطور المدن بحسب ما تمليه علينا متطلبات وحاجات الزمن الحاضر من جهة أخرى، ويمكن الاستعانة أيضًا بتجارب الدول الأخرى. فضلًا عن ذلك، أن الحفاظ عليها وإعمارها سيؤدي إلى فتح باب السياحة، واستقطاب السياح الذين يقصدونها من داخل العراق أو خارجه، وعليه لا بد أن تتزايد حركة الاحتجاج ضد أية عملية تهديم أو إزالة، قد تطال مدن ومواقع العراق الأثرية والتاريخية، وهي مسؤولية تقع بالدرجة الأولى على عاتق النخب والمهتمين بهذا الشأن. ولهذا تم إطلاق بيان احتجاجي على مواقع التواصل الاجتماعي، وجاء بمبادرة من الكاتب والشاعر العراقي (علي رياض)، وقع عليه نخبة من المثقفين العراقيين، رافضين لما يجري من هدم طال بعض أجزاء المدينة القديمة في النجف، فنحن جميعًا مسؤولون أمام الأجيال العراقية اللاحقة، التي ستأتي وترى كيف أن أسلافهم قد أمعنوا في تدمير وتهديم وتجريف ذاكرتهم وإرثهم ومن دون أدنى اكتراث.