يعتبر سوق "الحويش" من الأسواق العريقة التي تحتضنها مدينة النجف، إذ يُعد بمثابة الشعلة العميقة التي تضيء للناس دروب العالم والمعرفة مما جادت به أفكار الفلاسفة والكُتّاب، فعلى الرغم من أنّ النجف تشتهر بمكتباتها وما تحتويه من مخطوطات وكتب نادرة، لكن سوق الحويش بات يحتل مكان الصدارة بين أشهرها واضخمها من حيث عدد الكتب والمكتبات التي يضمها.
حين تدخل إلى الأزقة المؤدية إلى سوق الحويش تلفحك رائحة الورق والحبر العبقة وتشعر أنك تتجول في بستان كبير للكتب
وتكمن أهمية هذا السوق في موقعه الجغرافي المجاور لضريح الإمام علي، إضافة الى المدارس العلمية الكثيرة التي تحيط به، لكون النجف مركزًا علميًا دينيًا وتجاريًا مهمًا، ويبلغ طول ممره الرئيسي 3 أمتار، يجاور هذا السوق العديد من الأزقة الضيقة والتي لا زالت تحتفظ بهويتها القديمة والتي بدورها تقود المارة إلى سوق الحويش.
ويضم "الحويش" مسجد الترك ومسجد الهندي والأنصاري، إذ يُدرّس فيها مختلف العلوم الدينية إلى الآن.
حينما تدخل إلى أحد الازقة المؤدية إلى سوق الحويش تلفحك رائحة الورق والحبر العبقة، وتشعر أنك تتجول في بستان كبير حيث الكتب موزعة برتابة عالية على الأرض مثل سنادين الورد.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا يقرأ العراقيون؟
وتعود تسمية سوق "الحويش" نسبة إلى منطقة الحويش، التي ينحدر منها السوق، والحويش كلمة مصغرة يطلقها النجفيون على البيت الصغير التي تتوسطه باحة. وهي تمثل بيوتات الفقراء الذين قطنوا في هذا السوق ولا تزال بعض هذه "الأحواش" موجودة إلى الآن.
صاحب دار المعرفة، صلاح هادي، يقول في حديثه لـ"ألترا عراق"، إنه "لم يكن سوق الحويش مختصًا ببيع الكتب بل كان سوقًا شعبيًا فيه عدد قليل من المكتبات ويسمى سابقًا سوق "البزازة"، مبينًا "قبل عقد من الزمن أصبح السوق مختصًا ببيع الكتب، مشيرًا في الوقت ذاته إلى أن "النظام السابق كان يراقب هذا السوق وكانت بعض الكتب تباع فيه سرًا لأنها ممنوعة من قبل النظام ومن يعثروا عليه يبيع أو يشتري هذه الكتب فأنّ مصيره يكون ما وراء الشمس لذلك يضطر بعض الكتبيين إلى تمزيق أغلفة الكتب التي تعارض أيديولوجية حزب البعث ويلصقوا عليها أغلفة عناوين كتب أخرى حتى يضمنوا سلامتهم".
وعن رواد هذا السوق القدماء، أضاف هادي، أن "من رواده الشاعر محمد مهدي الجواهري، وعلي الوردي، ومصطفى جمال الدين، وعبد الرزاق عبد الواحد، وعريان السيد خلف، ويوسف حبي، وسالم الآلوسي وبعض علماء الدين مما لا تحظرني أسماءهم".
وعن دور الجهات المسؤولة، لفت هادي إلى أنه "لا يوجد أي اهتمام من قبل الجهات المسؤولة التي تحفظ لهذا السوق مكانته وإرثه ودوره البارز في مدينة النجف"، حيث يقال إنّ عمر السوق يقدر بحوالي أربعمائة سنة، ويقال أيضًا إنّ ابن بطوطة الرحالة المعروف قد أشار الى وجود هذا السوق، أو للنواة الأولى لنشوء هذا السوق عندما زار النجف سنة 770 هـ، حيث قال إنني "وجدت في النجف سوق للنساخين وسوق للصحافين"، ولهذا يعده أبناء النجف سوق تاريخي وأثري وله باع مهمة في الثقافة والأدب.
اقرأ/ي أيضًا: مهرجان "أنا عراقي أنا أقرأ" .. 40 ألف كتاب هدية للجمهور
طلاب العلوم الدينية هم أكثر رواد هذا السوق لكون النجف مدينة جاذبة لرجال الدين من مختلف أقطار العالم فهي مركز الحوزة العلمية وفيها بيوتات مختلف العلماء حيث تنتشر بالقرب من ضريح الإمام علي الكثير من الحوزات العلمية التي تنهل مصادر علمها من هذا السوق، فضلًا عن تنافس دور النشر في طرح منتوجها في هذا السوق، فشهرة "الحويش" تكاد توازي شهرة شارع المتنبي في بغداد، إذ يسميه بعض النجفيين متنبي العراق الثاني، ويرتاده أيضًا المثقفون والجامعيون في المحافظة.
ومن يلاحظ سوق "الحويش" فالطابع البارز عليه هو طابع ديني، لكن زوّار هذا السوق هم من مختلف الاتجاهات فيحتوي السوق على الكتب الدينية والكتب العلمية وكتب الأدب بمختلف أجناسها، فهو سوق يحمل في طياته الكثير من العناوين والاختصاصات، فيزوره الطبيب والمحامي ورجل الدين والمثقف والشاعر.
يقول الطالب مرتضى عبد الجليل في حديثه لـ"ألترا عراق"، إنني "بين فترة وأخرى أزور هذا السوق لكوني أجد فيه أغلب الكتب المهمة في مختلف المجالات، خاصة في مجال دراستي كوني طالب دراسات عليا في كلية العلوم السياسية".
في سوق الحويش تجد مختلف الكتب الدينية وغير الدينية إضافة إلى المذهبية المختلفة عن طابع المدينة المذهبي حيث أن أهم ما يميز السوق ليست الأفكار فيه ممنوعة
حينما تزور مكتبات الحويش تقع عينك على مختلف المصنفات الإسلامية وغير الإسلامية، بالإضافة إلى كتب مختلف المذاهب والأديان، ولعلي لا أبالغ إنْ قلت توجد في الحويش حتى الكتب التي تدعوا إلى الإلحاد مثل كتاب وهم الإله وكتاب آيات شيطانية، ونجد صحيح البخاري ومسلم ومقارنة الأديان، فأهم ما يميز هذا السوق هو لا ممنوع فيه لأن الأفكار تقرع بالفكر وليس بالمنع والإقصاء، فالحويش يعد بوتقة تنصهر فيها جميع الأفكار على مختلف مشاربها، وليس هنالك ما هو ممنوع إذ تعد حرية الفكر والعقيدة سمة بارزة في هذا السوق، ليكون بصمة ثقافية خالدة في قلوب كل عشاق العلم والمعرفة، وكشارع المتنبي ببغداد فإنّ يوم الجمعة هو أكثر الأيام إقبالًا من قبل الناس على هذا السوق.
وعن سبب رخص أسعار الكتب في هذا السوق، يقول الكتبي نبيل محمد في حديثه لـ"ألترا عراق" إنّ "رخص أسعار الكتب يعود لكون أكثر دور النشر هنا هي لبنانية وإيرانية، وبسبب الظرف السياسي وصعود الإسلاميين إلى سدة الحكم وتجربتهم السيئة فأن الناس صارت لا ترغب الكتاب الديني، مبينًا أنهم "يلجأون إلى الكتب العلمية والأدبية، بالإضافة إلى أغلب طلاب العلم هنا من ذوي الدخل المحدود فتباع الكتب برخص مراعاةً لأوضاعهم المالية".
أضاف محمد، أنه "لا يوجد أي قيود ومضايقة لهذا السوق فتباع فيه كتب مختلف الأديان والمذاهب والأفكار، بل حتى تباع فيه الكتب التي يقولون عنها إلحادية، مثل كتاب أصل الأنواع وكتب ريتشارد دوكينز وغيرهم".
الناس في سوق الحويش لا يرغبون في الكتاب الديني ويلجأون إلى الكتب العلمية والأدبية وتباع الكتب لهم بأسعار رخيصة مراعاةً لظروفهم
وعلى الرغم من اختلاف تسميات هذا السوق، فمنهم من يسميه سوق الجواهري، ومنهم من يسميه باب القبلة، إلا أن الاسم الذي عرف به واشتهر هو "سوق الحويش". ليبقى معلمًا ثقافيًا من المعالم التي تمتاز بها مدينة النجف.
اقرأ/ي أيضًا:
المكتبات العامة في العراق.. من احتكار الاستبداد إلى إهمال المحاصصة
صندوق للتبرع بالكتب من مبادرة "أنا عراقي أنا اقرأ" يتوسط معرض بغداد