واحدة من مكاسب العصر الحديث التي حازها شيعة العراق هي النظام الديمقراطي. وعلى الرغم من قبولهم على مضض فكرة الديمقراطية، وعلى الرغم من القلب المشوه لأسس الديمقراطية، إلا أنه سيندمج كلا المذهبين -السني والشيعي- في نظرية سياسية واحدة تؤسس لنظام سياسي بعيدًا عن المناوشات الطائفية بخصوص نظرية الخلافة وما يترتب عليها من شجون تاريخية مؤلمة. المذهبان يقران، في لحظتنا المعاصرة، بمعادل موضوعي لنظرية الشورى وهو الديمقراطية.
نأمل أن تفكر الجماعات الدينية بنظرية سياسية -إن كانت متوفرة في نصوصهم- تبرهن لجماهيرهم وجود ملامح فقه سياسي حقيقي بدلًا من الأحقاد المذهبية
أحلم بذلك اليوم الذي يقيم فيه المسلمون دولتهم الدينية طبقًا للقرآن والسنة، وتكون سلطتها القضائية والتشريعية بيد الفقهاء، لكي لا يخرج بند دستوري وقضائي وتشريعي عن حدود الشريعة الإسلامية. هو ليس حلمًا لدواعٍ نفسية مريضة، أو بدعوى التهكّم والسخرية ونحو ذلك من الصفات الدونية، وإنما ليفهم المسلمون نصوصهم التأسيسية الأولى وإضفاء معنىً معاصرًا لمعانيها السابقة، وينزل الفقهاء- بوصفهم حقوقيون- إلى الواقع ويصطدموا فيه بقوة، مثلما فعل الأسلاف حين ابتدعوا علم الكلام، على سبيل المثال، للإجابة عن أسئلة كانت راهنة وإشكالية في وقتها، أو مساهمة علم الأخلاق ومشاركته في قضايا أخلاقية معاصرة كالموت الرحيم، والنسوية، والشذوذ الجنسي، والحقوق، والحريات، والكثير من المستجدات عبر عقد الندوات المستمرة بخصوص هذا الشأن، ومن ثم صياغة نظرية سياسية تنسجم مع حركة الواقع وتدفع الباحثين لتدشين رؤية تأويلية معاصرة ترتبط بالتشريع السياسي والأخلاقي والاجتماعي طبقًا لمصادرهم الدينية، خصوصًا مع توفر باب الاجتهاد الذي يتيح لهذه الوثبة بوصفها إمكانية يوفرها الاجتهاد، بدلاً من الخوض في قضايا هامشية، كنظرية المؤامرة، والإلحاد، والعلمانية، والصراعات الطائفية، والتركيز على الطقوسية ونحو ذلك.
ربما وبعد هذا الحراك الجدي يتشكل لدينا فقه الواقع يكون في تماس مباشر مع هموم وتطلعات الناس المعاصرة، فعلى الأقل يحافظ المسلمون على هويتهم الدينية أمام هذه التحديات الكبرى والتطورات الهائلة التي تحدث في العالم المعاصر. أو تنبثق من حراكهم هذا الركائز الأساسية لمعالم الدولة الإسلامية وهل سيخترعون نظامًا جديدًا لم نسمع به من قبل.
نحن نأمل أن يأتي ذلك اليوم الذي تكّف فيه الجماعات الدينية لا من تصنيف "الآخر الغريب" عن عقيدتها بل ذلك الآخر الذي يشاركها نفس الدين، ومن ثم لدينا أمل آخر وهو أن يفكروا بنظرية سياسية -إن كانت متوفرة في نصوصهم- تبرهن لجماهيرهم وجود ملامح فقه سياسي حقيقي بدلًا من الأحقاد المذهبية، ذلك أن هذه الفكرة يمكنها أن تدخل ديناصورًا في حالة إغماء أبدية وهو يحاول التفكير في مكوناتها، وأعني بها تلك الفكرة المذهبية المهمومة بتصنيف الناس: من فيهم على "المذهب الحق" ومن ليسوا كذلك. معظم أشكال الصرع الجماعي تأتي من هذه الفكرة المُحَيّرة.
أعلى صفة يمكن أن نعثر عليها في النص القرآني هي صفة التكريم "وكرمنا بني آدم"، هذه الكرامة التي يمكننا أن نفهم إحدى تفريعتها هي الحرية والاختيار، ذلك أن الإنسان خالق لأفعاله بمعزل عن أي سلطة إكراه تمارس عليه، ومن هنا تأتي فكرة الحساب: لا حساب بدون اختيار كامل. قال فتحي المسكيني إنه السياق التوحيدي لفكرة "الخلق"، أن الحر يخلق أفعاله بنفسه، ولهذا يُحاسب عليها ويُثاب.
لنكن واضحين أن صوغ دساتير خاصة للشعوب يعني دخولها، نسبيًا، في زمن الحداثة، الزمن العلماني، بحيث تصبح هذه الدساتير منافسة للتشريعات الدينية. فلا معنى لهذا الصراخ والزعيق ضد الدولة العلمانية وفي ذات الوقت الانخراط فيها والانتفاع من فرصها السيادية والقبول بمنطقها والخضوع لهياكلها الإدارية والقانونية، إما أن يكون نفاقًا صريحًا أو عجزًا واضحًا من الإتيان بالبديل الديني.