17-نوفمبر-2023
الغرب

الديمقراطية  حلم يداعب شعوبنا التواقة إلى الحرية (فيسبوك)

في حوار مع صديق قديم تناولنا فيه الأحداث الهمجية الأخيرة على غزة من خلاله سؤاله المعهود والمعتاد والموسمي: لماذا تدين الغرب، وتنخرط في الخطابات الشعبوية المغرمة بنظرية المؤامرة، وأنت تعلم جيدًا أهمية الحضارة الحديثة التي أبدعها الغرب، إذ لولاها لظلت البشرية في ظلام دامس؟ كان جوابي كالتالي: مفهوم "الغرب" عمومي للغاية لا ينطوي على دلالة حاصرة؛ فالغرب يعني الاستعمار واللصوصية، مثله مثل أي إمبراطورية مهيمنة على مر التاريخ، وكذلك يعني الغرب، التقدم التقني، والفلسفي، والفني، ويعني القوة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والثقافية، هذه القوى التي وصلت إلى مراحل غير مسبوقة في التاريخ البشري. وهذا التراكم يمثل النتاج الهائل المتمثل بالحراك الحضاري الذي تراكم عبر آلاف السنين، ذلك أن الحضارات لا تموت بل تنتقل مكانيًا، وقد كانت الحضارة الغربية من أبرز المساهمين في هذا السير الحثيث والمضني، حيث شكّل علامة فارقة في لحظتنا المعاصرة.

الأنظمة السياسية الغربية تنظر لقضايانا بلا أبالية مطلقة عبر استزراع تلك الغدة السرطانية المؤلمة "إسرائيل"

 إذًا، الغرب لصوص، وأوغاد، ومستعمرين، وعلماء، وفلاسفة، وفنانين، ومؤسسات، وبنى تحتية، وتقدم مهول.. إلخ، وعموم الشعوب القاطنة في أقصى الهامش يداعب أفرادها على الدوام حلم الوصول إلى أحد البلدان الغربية للعيش بسلام وكرامة، نظرًا للقوانين المدنية المتقدمة في هذه البلدان. ولا زالت جيوش المهاجرين تسعى لترجمة هذا الحلم على أرض الواقع والوصول إلى ضفة الشاطئ الغربي الآمنة والرغيدة.

 لا يوجد مجنون على وجه الأرض يتنكّر لدور الحضارة الغربية الحديثة، اللهم إلا متعصّب مريض تفترسه أوهام المعتقدات المزيفة. مشكلتنا ليست بيع النفط واستيراد السلع والخدمات والتكنولوجيا اللازمة، ولا تكمن في عدم اعترافنا بهيمنة وتفوق دول المركز، فهو تحصيل حاصل على أي حال، ولا بالمصالح الحيوية لقوى المركز، المشكلة هنا وبالذات: السياسات الخارجية غير العادلة لهذه الدول ونظرتها غير المكترثة للمشرق العربي، والتي لا تضع في حساباتها الجيوستراتيجية المصالح الحيوية للوجود العربي. إن الأنظمة السياسية الغربية تنظر لقضايانا بلا أبالية مطلقة، عبر استزراع تلك الغدة السرطانية المؤلمة "إسرائيل"، والتي ندفع ثمنها باهظًا دون أي مسوغ منطقي من جهتنا (أما من جهة دول المركز فالمسوغ أكثر من منطقي).

أما الديمقراطية في منطقتنا تشبه عبارة "هنرميهم في البحر ياريس" التي أطلقها يوم ذاك المشير عبد الحكيم عامر! ثم استفقنا على وقع الهزيمة والانكسار المدويان. الديمقراطية  حلم يداعب شعوبنا التواقة إلى الحرية (طبعًا للطابور الخامس رأي آخر: لقد اكتشفوا أن المشكلة في الشعوب العربية الرافضة للحرية والديمقراطية)، بيد أن دول المركز وأنظمتنا العربية المتهالكة لها رأي آخر تمامًا.  إن الديمقراطية بالنسبة للقوى المهيمنة تعني حق الشعوب في تقرير مصائرها السياسية، وتعني التبادل السلمي للسلطة، وتعني الفصل بين السلطات، وتعني رئيس سلطة تنفيذية يختاره الشعب. تلك الخطوات لا تفقد مبرراتها المنطقية في ذهنية هذه القوى فحسب، بل ينبغي تشتيتها بأي طريقة ممكنة؛ مثلًا إذا طالب الشعب السوري بالحرية لا بد أن تتحول تلك "الحرية" إلى جحيم أسود ويكون الثمن هو دمار البلاد وتقسيمها، ومن ثم ليس مهمًا أن يستمر بشار الأسد بمهامه "الدستورية" كرئيس لبلاد مشلولة ومقطعة الأوصال، يتحكّم بها "الأصدقاء".

على الديمقراطية في منطقتنا أن تتحول إلى وسيلة ابتزاز للضغط على الشعوب (وليس الأنظمة): على شباب انتفاضة تشرين في العراق أن يدفعوا الثمن غاليًا، وعليهم أن يموتوا بالجملة، وعلى ذويهم أن يستسلموا للأمر الواقع، لا شيء يحدث، مجرد عشرات الشباب سقطوا غدرًا للمطالبة بحرياتهم، هذا هو الأمر ببساطة شديدة! وعلى الفساد السياسي أن يبقى ذكرى " ديمقراطية عزيزة" على العراقيين. وعلى المصريين أن يقبلوا بالسيسي بديلًا "مثاليًا" لانتفاضتهم الشعبية، خشية أن يأتي نظام ديمقراطي، لا سمح الله، ويشاكس الجوار الإسرائيلي، فديكتاتور تحت اليد، بل تحت الطلب، خير من مجهول ديمقراطي مخيف، ذلك أن الذهن البشري يخشى المجهول، والاستبداد معلوم وواضح النتائج لدول المركز و"إسرائيل"، أنه الصورة المثالية التي أدمنها الغرب وهو يحلل الثقافة "الشرقية". بعبارة أخرى: لا يريد الغرب أن يرانا بصورة تغاير نظرته الاستشراقية القديمة: استبداد ذكوري وشبق نسائي.

المهم في الأمر، وينبغي كذلك ضمان التفوق "الديمقراطي الإسرائيلي". حتى لو كانت إسرائيل إرهابية وتتعامل مع الشعب الفلسطيني بوحشية غير مسبوقة، وأن يصل عدد ضحايا إرهابها الوحشي أكثر من أحد عشر ألفًا ثلثهم من النساء والأطفال والشيوخ، فالإرهاب هنا لا يسقط المنطق الديمقراطي، ذلك أن السياسات الديمقراطية داخلية، والإرهاب والإذلال المتعمد لشعوب المنطقة، ومنها على وجه الخصوص الشعب الفلسطيني، سياسة خارجية، فلا ربط بين الاثنين! (وهذا المقارنة ترضي طابورنا الخامس على ما أظن). هكذا إذًا: سياسات داخلية مثالية، وسياسات خارجية، تجاه المشرق العربي بالتحديد، قائمة على الإكراه، والضغط، والنفاق السياسي، والنظرة الرخيصة والدونية تجاه شعوب المنطقة، التي لا تُقارَن بقيمة الطاقة وأمن إسرائيل.

السؤال الذي يطرحه صديقي بين الحين والآخر، ليس سؤالاً متفردًا ولا جديدًا على أمثالنا المعتادين على تدوير ذات الرطانات. بمعنى، ليس هنا جوهر القضية، ولا يعتبر السؤال  جوهريًا، أو مساهمًا في تحريك الراكد، أو مزعزًا لقناعة ما، وإنما عن كمية الملل والكآبة التي يشعر بها أحدنا وهو يعيد ذات المعزوفة لأصدقائنا، لدرجة أن معظم حواراتنا المتعلقة بهذا الشأن تبدو للحصة المدرسية أقرب منها للحوارات الجادة، هل حق نستحق كل هذا التكرار- التعذيب ونحن نحاول تبسيط تلك الحصص المدرسية لأصدقائنا المتعلمين!