إذا اعتاد المرء شيئًا دخل معه في علاقة حميمة. أي أنه ضمّ هذا الشيء في دائرة الأًلفة، ويغدو عنصرًا أساسيًا في بنية الهوية الشخصية، ومكوّن من مكونات الأنا. فحينما أغضب، مثلًا، لا أقول، ثمّة فكرة اجتاحت ذهني تدفعني للغضب، بل أقول: أنا غاضب! أي أن هويتي هي محض غضب، أن هذا الأخير لا ينفصل عن هويتي، وإذا تكررت تلك الفكرة باطراد وبمرور الزمن أضحت عادة. فذهن الإنسان، كما يبدو، مجموعة من العادات المتراكمة عبر تفاعل الذات مع موضوعاتها: العادات والتقاليد التي تشكّل السياق الثقافي لأي أمّة.
تلعب الإكراهات الاجتماعية دورًا بارزًا في رسوخ العادات، وهذه الأخيرة تشكّل مقاومة شرسة لأي محاولة للتغيير
ومن ثمّ تلعب الإكراهات الاجتماعية دورًا بارزًا في رسوخ العادات، وهذه الأخيرة تشكّل مقاومة شرسة لأي محاولة للتغيير، فتحاول أي ثقافة أن تطبع صورة الفرد طبقًا لصورتها، وتشكّل سلطة مهيمنة تنفرد بإنتاج الحقيقة، وتسعى لتشكيل الأفراد كحرّاس لهذه السلطة المهيمنة. فمجموع الحقائق التي تتسالم عليها ثقافة ما، هي بالنتيجة مجموع عاداتها التي دخلت معها بألفة عميقة وراسخة لدرجة أنها تقاوم بشراسة أي محاولة للتغيير، فالسلطة - التي هي مجموع هذه القيم - لا تتغيّر من تلقاء نفسها. وحدها السلطة من تقرر متى وكيف يكون التغيير، ولا تعطي لأي قوة خارج هيمنتها الفرصة للتغيير.
اقرأ/ي أيضًا: عن وثنيتنا المعاصرة
لذلك يُعتبر التغيير من أصعب المحاولات التي يكابدها الفرد والمجتمع، ذلك أن الكوابح التي سيصطدم بها أكبر من التغيير نفسه! تتمثّل هذه الكوابح على شكل عادات، وهذه الأخيرة، بمرور الزمن، تتحوّل إلى مألوفات، فرديةً كانت أم اجتماعية، وهذه المألوفات تشكّل العناصر الرئيسية لسلطة المجتمع. في تجاربنا الذهنية والسلوكية يمكننا أن نعثر على عشرات الأمثلة التي تبرهن على الألفة والاعتياد. الكذب، الرياء، الغضب، الجشع، التكبّر، التغابي، والأنانية، العنف، الاستبداد، النرجسية الجماعية.. الخ. أضحت هذه الأعطاب الأخلاقية عادات راسخة وجزء من هوية الفرد والمجتمع، بحيث لا يقوى على تغييرها، لأنه لا يستوعبها إلّا بوصفها جزءًا من ذاته، فكيف يغير الفرد - المجتمع "ماهيته"؟! أمّا في محاولات التغيير التي تتّسم بنوع من الجدية، فسرعان ما يصيبها الإخفاق، ذلك أن الضعف الذي يتبدّى أمام الظواهر لمواجهتها هو أضعف بكثير من العادات نفسها، فضلًا عن افتقارها للبديل المقنع.
فمن هنا كانت هذه المحاولات - على صعيدي الفكر والأخلاق - تُسجّل عادةً لأفراد محدودين تبقى آثارهم شاخصةً على مرّ العصور. ولشدة مقاومة العادات لهؤلاء الأفراد - الحكماء لا يحدثون تغييرًا آنيًا؛ لأن التغييرات لا تحدث بشكلٍ فجائي أولًا، وللمقاومة الشرسة التي يبيدها المجتمع متدرّعًا بعاداته الراسخة ثانيًا، . لذلك يعمل هؤلاء بتشييد البنى التحتية للتغير ويخلقون الإمكانيات الواسعة للفكر والحياة. لا زال العالم يتزوّد من بوذا، وكونفشيوس، ولاوتسه، وسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم. فلازال هؤلاء، بشكلٍ وبآخر، يشكّلون أحد الدعامات المهمة للفكر والحياة. والطريف في الأمر، أن أول من يقف حجرة عثرة في وجه هؤلاء الأفذاذ هم شعوبهم حينما "يستفزون" هؤلاء الحكماء العادات المتأصلة؛ لقد رحلت البوذية من موطنها الأصلي (الهند) إلى التبت والصين لتشتهر هناك، لأنها لم تستطع اختراق الهندوسية الغائرة في أعماق الوجدان الهندي، فالعادات التي تشكّل سجّل الماضي الهندي أقوى من البوذية "الطارئة"! لكنّها نجحت في نهاية المطاف، كونها تعاليم برهنت على حيازتها على بدائل "روحية" مقنعة.
إن بصيرة الحكماء، ومن يتبعهم، تبقى نافذة، لأنها تأتي ببدائل - على المستوى الفلسفي والروحي - لا تقلّ إغراءً عن قيم الأسلاف. لقد قاوم المجتمع الصحراوي النبي محمّد، لكنّ النبي العربي لم يترك الأمر محصورًا بخطابات تجريدية، بل فتح لهم آفاق دنيوية لم يحلموا بها من قبل، لقد جاء بكنوز كسرى وقيصر، وأذل الإمبراطوريات الكبرى، وأسس حضارة في الصحراء، تًعدَ من أكبر الحضارات إثارة للجدل في التاريخ البشري. لقد حرّك كرة الثلج ففتح منافذ العالم لأبناء جلدته ليهيمنوا على العالم لمدة أربعة قرون، لأنه جاء بالبديل المقنع. فبالتالي أن أول خطوة لأحداث التغيير، والحد من ضراوة العادات الاجتماعية هو طرح البديل اللازم، فهو لا يأتي دفعة على الإطلاق، لكن على الأقل الممارسة الصادقة والخالية من الازدواجية، ربما، تجعل المجتمع يتعاطف، ولو نسبيًا، مع التغيير. غير أن التغيير يبقى ناقصًا ولا يحظى بالإقناع ما لم يستحضر العيّنات الملموسة.
فالتغيير الفردي له آلياته، والتغيير الاجتماعي له آليته أيضًا؛ يمكنك أن تتقبَل كفرد نموذجًا فلسفيًا أو روحيًا جديدًا على عاداتك، لكنّ المجتمع سيقاوم بشراسة دفاعًا عن عاداته المتأصلة. ويبدو أن العيَنات المادية ستكون أحد الأسباب الجوهرية للتغيير الاجتماعي، وستساهم في مرونة استقبال الوافد الجديد. سيكون الذهن في هذه الحالة أكثر انفتاحًا من ذي قبل، لأن النموذج المادي يندرج في سياق الأدوات، وهذه الأخيرة وظيفتها تحسين الحياة المادية لا الروحية، فلا تُعَد، بشكلٍ عام، عدوًا لعاداتنا العزيزة على قلوبنا. لكن بمرور الزمن ستنعكس على قضايا الفكر ونستلهم منها طرق تفكير جديدة وتمنحنا الكثير من الإمكانيات.
يُعتبر التغيير من أصعب المحاولات التي يكابدها الفرد والمجتمع، ذلك أن الكوابح التي سيصطدم بها أكبر من التغيير نفسه
إن الترابط المنطقي الصلب لا يمكنه أن يمثّل نموذجًا مقنعًا - على المستوى الاجتماعي - على الإطلاق، خصوصًا أن الأفكار الخلّاقة والنظريات المُحكَمَة تستمد عقلنتها لا من الذهن بما هو كذلك، بل تستلهم قوتها وأصالتها من الوقائع الخارجية، وهذه الأخيرة لا بد أن تتوفر على نموذج ملموس. فتغيير عادات مجتمع ما لا تحد بالمواعظ الأخلاقية ـ رغم أهميتها - والحجج المنطقية فحسب، بل بعوامل مادية عديدة. في كتابة المهم "عصر الثورات" يذكر المؤرخ القدير إريك هوبزباوم العوامل الجوهرية للتنوير الأوربي، حيث يقول إن "الإيمان الذي تشرّبه وتشبّع به القرن الثامن عشر بتقدم المعرفة الإنسانية، وبالمنهج العقلاني وبالثورة المدنية والسيطرة على الطبيعة، أي حركة التنوير، إنما كان يستمد قوته أساسًا من التقدم الواضح في مجالات الإنتاج والتجارة، والعقلانية الاقتصادية والعلمية، التي كان من المُعتَقَد إنها ترتبط بكليهما على نحو حتمي، وكان فرسان الساحة البارزون في هذا المجال هم أبناء الطبقات الأكثر والأكثر التصاقًا بأشواط التقدّم الجليّة في ذلك العصر: جماعات التجّار ومالكي الأراضي، والمستنيرين اقتصاديًا والمديرين الاقتصاديين والاجتماعيين، والطبقة الوسطى المتعلمّة، وأصحاب المصانع الاقتصاديين".
اقرأ/ي أيضًا: آباء "ورعايا".. رحلة التمرّد الطويلة
بهذه الطريقة العميقة والمُحكَمَة تتغير الوقائع، وتتغير طبقًا لها العادات الاجتماعية الراسخة، وما عدا ذلك فهي ليست سوى آليات سحرية لا تقوم على تغيير الوقائع بل على تغيير الفكر نفسه فحسب، ما يؤدي إلى انقطاع الفكر عن موضوعه، والداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر.
اقرأ/ي أيضًا: