08-نوفمبر-2023
غزة

الحكومات العربية المطبعة مع الكيان بواد وشعوبها بواد آخر (Getty)

منذ ثلاثة ليالي، تضج أسماعي بمزيج متقطع من ثلاث أصوات صاخبة ومتداخلة بطريقة مزعجة، تُسمع كلها دفعة واحدة، بين ساعة وأخرى، في النهار هي مجرد أصوات وفي الليل تتحول لكوابيس.

ينطلق السؤال مع تصاعد العدوان الإسرائيلي على غزة: هل تعرضنا لاختبار حقيقيّ للتضامن؟

الصوت الأول الشاحب والمتبوع بنوبات بكاء متقطعة لأم عراقية، فقدت عزيز قلبها وثمر شيبها، ابنها الأصغر، برصاص صائدي الرؤوس، إبان انتفاضة تشرين في الواحد من تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، تقول، وهي تلثم جثمان الفتى، الذي لم يتجاوز عمره الثامنة عشر ربيعًا، بل خريفًا، من كل مسامات وجهه:" بلكت يگعد.. حاچي.. بلكت يگعد"، يقال والعهدة على القائل، بأن الأم لم تطق العيش بعده، فزهقت روحها خلفه بفترة وجيزة.

يتداخل مع نحيب الأم، صوتًا آخر من نار في مقطعٍ فيديوي مصوّر، من أكبر معتقل في العالم، غزة، لأم فلسطينية تكاد تنعدم من الألم الطافح حد التخمة في مُحياها الذاوي، فقدت هذه الأم كل ما أنجبت بطنها لهذه الدنيا نتيجة للقصف الصهيوني البربري على غزة بمعركة طوفان الأقصى، وهي تقول "الولاد ماتوا بلا ما ياكلوا.. والله ما أكلوا الولاد". 

يتداخل أيضًا الصوتان مع الجو العام لهما، بالإضافة لصوت ثالث، فيه قصيدة عراقية مشهورة ترثي ابن الحسين الذبيح على رمضاء كربلاء (عبدالله الرضيع) للقارئ "حمزة الزغيّر" يقول فيها: "يوليدي خلي الماي لا تطلب الماي... كل خوفي من تروح تتگطع حشاي"، يقولها بسحنات عراقية جنوبية، تُحيل حياة الفاقدين لسجن متحرك قضبانه من ذكريات المفقودين. تجتمع هذه الأصوات لتصنع مني جسدًا متخم بالفجيعة، تمثالًا منحوتًا بلا فم من شدّة الألم، لكن هل يبقى هذا الألم ألمًا وجدانيًا مبرحًا أثناء تعرضه إلى اختبار الأخلاق؟ "الأخلاق غير المؤلمة في الأزمنة الديمقراطية"!

في خضم هذه المشاعر، تتقافز أسئلة أعتقد أنها مهمة عن فكرة التضامن. هنالك مصطلح استخدمه الفيلسوف الفرنسي جيل ليبتوفسكي في كتابه أفول الواجب، المصطلح اسمه "الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الحديثة"، المعني بالأخلاق غير المؤلمة هنا هو التضامن الذي لا يقض المضجع، الأخلاق المريحة، الخالية من روح المسؤولية، الخالية من فكرة الواجب، التي لا يترتب عليها أي ضرر يمس الشخص أو حتى احتمالات ضرر، بمعنى أن لا تتعرض حياة المتضامن للخطر، ولا يهدد عمله بالزوال، ولا أفراد عائلته للمضايقة، ولا أمواله الطائلة بالنقصان، حياته هي هي وعمله هو هو وأحبابه هم هم. يضرب الفيلسوف الفرنسي مثلًا بفكرة التبرعات بالزمن الحالي، عادي جدًا أن ترى مليونير يتبرع بكذا مليون دولار، هذه هي الأخلاق غير المؤلمة. لكن هل هذا هو المعنى الجوهري للأخلاق؟ بكل تأكيد لا.

أما الأخلاق المؤلمة، أوضح تفسير لها جاء في الموروث الإسلامي "كلمة حق عند سلطانٍ جائر" أو كما جاء في القرآن الكريم "ويؤثرون على أنفسهم ولو بهم خصاصة". هي أخلاق غير مريحة، أخلاق عدم مسك العصا من المنتصف، أخلاق عدم المكوث في اللون الرمادي. لنسأل أنفسنا، هل تعرضنا لاختبارٍ حقيقيّ للتضامن؟ هل سيبقى التضامن حاضرًا عندما يكون تضامنًا مؤلمًا وغير مريح؟ 

مقايضة التضامن

يبدو أن القاعدة البديهية التي تقول "يعرف الشيء بنقيضه" باتت مشوّهة في حفلة المآسي الكبرى وبازار تقاطع النيران وبحيرة الدماء التي تُسكب هذه الأيام. ينطلق بعض المحللين "الفيسبوكيين" من السؤال الخالي من المضامين الأخلاقية، ليقولوا: "لماذا نظهر التضامن مع الفلسطينيين وهم لم يظهروا تضامنًا معنا نحن العراقيين في فترة الغزو الأمريكي على بغداد؟". بغض النظر عن عدم دقة السؤال واقعًا، وانتفاءه تاريخيًا وقبل البعد السياسي المصلحي للتضامن هذا، يتجرد من يطرح هذا السؤال عن أي أخلاق إنسانية، ويجعل التضامن في كفتي ميزان، ليعرضه للمقايضة، أو المساومة اللاخلاقية، تتساقط القيم كما أوراق شجر الخريف هنا، وتتحول الأخلاق والمواقف إلى "دُكان" تشترى به الإنسانية وتباع بأبخس الأثمان. حيث لا يصح هنا أي قول غير الذي قاله توماس هوبز:" الإنسان ذئب أخيه الإنسان". 

العنف والعنف المضاد

بمنتصف الشهر المنصرم، انتشرت صورة لطفل فلسطيني يقف على رفاة أمه التي مزق أحشاؤها مقذوف صهيوني، صُنع بأيادي أمريكية، يمسك الطفل حافة السرير الملقاة عليه الأم، شكله يوحي بأنه سيكون أكبر حزام ناسف في العالم عندما يبلغ الحلم! هل سألنا أنفسنا كيف يتولد العنف المضاد؟ هذه ليست دعوة لتبرير العنف، بل دعوة لفهم سياق تكوين العنف في بلداننا العربية.

منذ أكثر من شهر والطائرات الإسرائيلية تقضم مباني غزة وساكنيها، تحيل هذه الطائرات السماء إلى اللون الرمادي الممزوج بالسواد، وتسحق البنى التحتية وما فوق التحتية على مدار الساعة، لا ننفض من انتهاء أخبار المجزرة الحاصلة حتى تباغتنا أخبار غيرها. هل يوضح هذا أي شيء لنا بالنسبة للعنف؟ وإن كنا عاجزين ومتململين من قراءة التاريخ الدموي للغرب تجاه العرب والمسلمين في مختلف الأزمان، فالحاضر يعلمنا درسًا مباشرًا، بل ومجانيًا أيضًا. سيولد هذا العنف عنفًا مضادًا، فدائيًا، يجعل كل ما هو غربي بالنسبة لهذا الطفل الذي لم يبق من عائلته شيء سواه، سوى الأطفال الذين فقدوا عوائلهم يجعله مشيطنًا، بل ستغدو الحياة بالنسبة له عبارة عن ثأر قائم، ولن يصالح هذا الفتى على الدم حتى بدم. ولن يكتفي!

وبعد سنوات قليلة، سيظهر لنا دعاة الإنسانية الكذبة، وجماعة حقوق الإنسان، دعاة اللاعنف على الطريقة الغربية، ليرموا تهم الإرهاب والتشدد والتعصب جزافًا على كل من فقد جزءًا من عائلته دون فهم السياق. كعادتهم، يحاكمون البواعث لا الجذور، الأسباب لا المسببات. لا يحاكم الفعل بيومه، ولا بشهره، بل يحاكم بتاريخه، بسياقه المتصل منذ بدأ الحدث.

هل ما زالت فلسطين تمثل بعدًا ضروريًا للشعوب؟

قد تتوقف الشعوب مرحليًا عن طلب الحرية تحت ضغط الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، وقد يساوم المواطنون على حقوقهم السياسية نظير الوعد بتحسين ظروفهم المعيشية. يحدث ذلك في منطقتنا العربية وقريبًا منها وبعيدًا عنها، حين يشوه وعي الناس، بحيث يخلطون بين طلب الحرية وبين خطري الفوضى وغياب الاستقرار، وحين تتمكن حكومات غير ديمقراطية من توظيف الخوف لإبعاد المواطن عن شؤون السياسة وقضايا الحقوق ودفعه إلى قبول الأمر الواقع وليس به سوى طغيان لحكم الفرد وغياب للتداول السلمي للسلطة، ووعود غائمة بإصلاح الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

يحدث ذلك أيضًا، حين تعمل حكومات غير ديمقراطية أدوات العنف في الناس وتجبرهم تحت وطأة القمع، أما على التسليم صاغرين باستحالة التغيير أو تزج بهم إلى مواقع عنف مضاد. يحدث ذلك ثالثًا، حين تعجز الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الداعية إلى الحرية عن إقناع قطاعات شعبية مؤثرة بقدرتها على تقديم بدائل فعلية للحكومات غير الديمقراطية. شهدنا جميعًا موقف الشعوب العربية المتضامنة مع غزة والمستهجنة لأفعال الكيان الغاصب، حيث أصبحت الشعوب هي من تقود الدول في قراراها العامة، وتؤثر تأثيرًا جوهريًا على صيغتها، ربّما أن هذه الحكومات غير الديمقراطية تخضع لأول مرّة لمزاج الشارع، خوفًا من تفاقم الأزمة.

هناك حكومات عربية غير ديمقراطية خضعت لشعوبها التي تضامنت سريعًا من الفلسطينيين

لبّ الحديث، أن سوء الحياة في بلداننا ونقص الخدمات وتلكؤ ملف الاقتصاد، لم يمنع الشعوب من إظهار تضامنها مع الأشقاء الفلسطينيين في غزة والضفة وغيرها، بل هنالك وعي متنامي مؤخرًا بأن لا حل لنا كشعوب عربية سوى زوال هذا الكيان، وأن وجوده يساهم بشكل مباشر بتلكؤ العمليات الديمقراطية والإصلاحات الحقيقية التي تستهدف مكامن الخلل في هذه الدول، وهذا الفعل إن دل على شيء، فيدل على أن الحكومات العربية المهرولة خلف تطبيع العلاقات مع الكيان بواد وشعوبها الرافضة لوجود الكيان على هذه الأرض بوادٍ آخر.