ناقشنا كثيرًا فراغ الساحة العراقية من فاعلين سياسيين حقيقيين، يمكنهم أن يحدثوا الفارق حتى لو كان فارقًا نظريًا على الأقل. وكانت حجتنا الواقعية هي الغياب شبه الكلي لوجود حاضنة شعبية، يمكنها أن تدعم توجهات الحراكات (أو الفورات) الاحتجاجية بشكل عقلاني منظّم. إذ اتسم الدعم الشعبي في العراق بميول ونزعات موسمية، تتمتع بذاكرة حماسية قصيرة الأمد، ثم سرعان ما يتحول هذا المد الشعبي إلى كتلة عدوانية ناقمة ومتذمرة، لأنها محصنة ضد الحقائق التاريخية التي تقول إنّ عمر الحراكات السياسية ليس قصيرًا على الإطلاق، ويحتاج إلى مدة طويلة لكي تختمر التجربة.
الكثير من المعارضين يرفضون ببسالة فائقة التعلم من الإخفاقات السابقة
وبوجود دوافع صادقة وظروف ملائمة وبيئة قابلة، يحتاج الحراك إلى مدة ليست بالقصيرة قد لا ينضج حراكها السياسي إلا بعد عقد على الأقل. أو على أكثر التقادير، لا يمكن لمشاركتها الفعلية في السلطة أن تقطف ثمارها إلا بعد تجارب مريرة، نظرًا لقلة الخبرة وقصر النظر. فتحولت تشرين، على سبيل المثال وليس الحصر، إلى مصدر نقمة شعبية. فهذه الأخيرة رافضة للتوجهات الساعية إلى المشاركة الفعلية في القرار السياسي عبر الانتخابات، ورافضة لتشكيل تنظيم سياسي يحظى بدعمها الشعبي. ورافضة أن تتحلى بالنفس الطويل ومراقبة سير الأمور عبر دعمها المتواصل للتنظيم السياسي، ورافضة أن تعترف بأنها حماسية تتحكم بها الأهواء العنيفة.
وعلى الرغم من كل الحقائق التي بين أيدينا، التي تتمثل بضعف الرأي العام، وتشهد بوضوح قصور الفاعل السياسي العراقي المعارض عن تغيير ولو جزء من السلوك السياسي المتعثر للسلطة، فلا زال "المعارضون" هم عبارة عن غضب جارف لا يجد مكانًا أفضل ليفرغ فيه شحناته النفسية سوى العالم الافتراضي، ويرفضون ببسالة فائقة التعلم من الإخفاقات السابقة. إنهم محصنون تمامًا من الحقائق كما يبدو، ولديهم مناعة عظيمة من الاعتراف بالخطأ.
القضية كالتالي: مرشحون مؤتمَنون من قبل ناخبيهم، وتشريعات قانونية، مثل قانون حظر الخمور، وقانون مكافحة "المحتوى الهابط"، تجد قبولًا واسعًا بين شرائح اجتماعية واسعة. والسبب واضح: إنها تحاكي القيم الدينية والاجتماعية في المجتمع العراقي. والمشرع العراقي ليس غافلًا عن هذه النقطة، وهي مداعبة وجدان الناخبين بما يتماشى مع ذاكرتهم الدينية والاجتماعية. وهي محاولات ذكية لاستمالة ناخبيهم ودفعهم لمناطق جديدة لا تكون فيها ملفات الفساد جزءًا من قضاياهم الجوهرية.
إن المثالية المفرطة لـ"المعارضين" أضاعت منهم فرصة حقيقية ليكونوا معارضين بحق؛ فرصة احتراف سياسة التفاوض والخروج بالأقل الممكن (أو ربما يريدون تغيير النظام السياسي!)، أو على الأقل فرصة الترشح للانتخابات، فهذه الأخيرة على علّاتها، ومهما جادلنا في الانسداد السياسي الحاصل، تعتبر الملاذ الوحيد للتغيير المرجو، وهو تغيير بالطبع لا يحدث بسرعة كتابة منشور فيسبوكي متمرد. إنه تغيير يحتاج إلى قاعدة بيانات واسعة، وخبرة متراكمة لا تحدث إلا بعد إخفاقات كثيرة. فاختار الأذكياء، من الكتل المستقلة، خوض هذه المعمعة، وهم محقون، فيما ظل المتذمرون لا رأسمال لهم سوى التهكم والتنمر على جهود المستقلين. خصوصًا إذا علمنا أن المستقلين خاضوا معركتهم الانتخابية بعيدًا عن صخب العالم الافتراضي.
ما الذي جنيناه نحن "الكتّاب"؟ السباب، واللعن، والتخوين. لأننا عبرنا عن وجهة نظرنا بحرية ومسؤولية، وإليك أحد الأمثلة: إنّ التيار الصدري هو التنظيم السياسي الوحيد الذي يمتلك جمهورًا ثابتًا، فمن غير المنطقي الدخول في دوامة عدائية تجاهه، لأننا، ربما، سنحتاجه يومًا ما في البرلمان. بمعنى، أنك، كبرلماني مستقبلي، لا يمكنك أن تستمر بهذا العداء داخل قبة البرلمان، وسيكون المستقبل القريب شاهدًا على هذه الحقيقة. لكن القوم، كما لو أنهم مهمّون، اتضح لهم من أننا "صدريون"!
ليس هذا فحسب، بل طالبنا بضرورة وجود ندٍ سياسي حقيقي للصدريين، لا يتماهى معهم كليًا بقدر ما يكون منافسًا سياسيًا بالفعل-وليس عشائريًا- يتميز برؤيته السياسية وبرنامجه الانتخابي، لكي يثبت عن حق وصدق قوة تمايزه عن كل حراك سياسي آخر. والنتيجة "مراحل من بعد الفراغ". إننا متميزون، لكن كيف؟ لا نعلم.
المشكلة ليس في هذا الاتهام بحد ذاته، المشكلة أن البنية الذهنية لفئات عراقية ليست بالقليلة قائمة على هذه الثقافة، وهي النواة الصلبة التي تحرك طرق تفكيرهم ومجمل تصوراتهم. لا يمكنهم أن يحللوا مواقفك بعيدًا عن التخندق والتخوين. إن القضية الأساسية التي يقاتلون عليها هي "أشباح حرية، وديمقراطية، وعدالة"، لكن كيف وما هي الآلية؟ لا جواب حتى الآن سوى الصراخ والشتائم والسباب. نعم أن القضية صعبة ومعقّدة للغاية في ظل نظام سياسي فاسد، لكن، وببساطة شديدة، إن لم تكن نافعًا فلا تضر.