في الآونة الأخيرة، أُشغل الناس بثنائية "المحتوى الهابط والهادف"، وأثناء ذلك، كان يتمّ تمرير القوانين التي تدق الأركان الجديدة في بنية هذا النظام السياسي، للانقضاض على ما تبقى من حقوق وحريات.وهي قرارات ربما سيلحقها استدعاءات على مواطنين عزل وناشطين وصحفيين ومدونين إلى مراكز الشرطة على خلفية "منشور" على مواقع التواصل الاجتماعي أو تحقيقات صحفية أو مفردة قد "تسيء" إلى النظام السياسي هنا بدعوى أنها "محتوى هابط"!
قرارات التضييق على الخمور في العراق تأتي لتنشط تجارة المخدرات
كما أنّ رفع الأسعار عن ما يسمى بـ"المحظورات" ومنع تداولها، يدعو للأسئلة الجوهرية بشأنها، لأنّ الميليشيات المسيطرة على الحانات وصالات القمار، والقائمة على تهريب الممنوعات، لديهم أزمة مادية، لذلك ارتأى جمع منهم باتخاذ قرارات "مهمة" لزيادة الموارد المادية! هذه القرارت متمثلة بزيادة الضرائب على الخمور والعياذ بالله وحظر دخول بعضها، هي قرارات برأينا تأتي لتنشيط بيع المحظورات في السوق السوداء، المسيطر عليها من قبلهم، لتنشط المتاجرة بالمخدرات وتتضاعف الأتاوات التي يفرضونها على أصحاب صالات القمار التي تعمل بالخفية، وهم حماتها الأبرار. ثمّ لا أدري أيهما خطورة بتأثيره على المجتمع، ما يسمونه بـ"المحتوى الهابط"، و"الخمور"، أم هي جرائمهم بحق هذا البلد؟ إنّ حجم الخراب والرثاثة، والتخلف والردة الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية العميقة، كلّها أزمات يعيشها العراق بسبب أحزاب لم تنجح في إعطاء تصور واضح عن حكم رشيد ويخدم الناس.. وعلى سبيل المثال: أيهما خطورة، هذه المؤثرات أم خطابهم الطائفي ونهب وتهريب خيرات العراق إلى الجارة التي جارت علينا؟!
النظر البسيط للواقع العراقي يستدعي بناء قناعة، بأن الجماعات الحاكمة هم أصل الداء والخراب، والفساد بوجودهم يتفاقم في كل مفصل من مفاصل البلاد، وبعد هذا، يريدون قمع الحريات، ومصادرة الديمقراطية، والعمل على اندلاع الصراع الطائفي، والقتل على الهوية، علاوة على الكوارث المالية والإدارية، والبطالة والبؤس والفاقة والذل.. يتضح من مجمل هذه القرارات، أنها لوضع الحريات تحت الإقامة الجبرية، ومن ثم طردها من المشهد بشكل كامل. إن مجساتهم العاطلة عن الحياء تيقنت، أن الشعب نفد صبره على ظلمهم، وسيحاكمهم، لذلك يلعبون على هذا الوتر بغية استمالة الناس دينيًا لصفوفهم، لكنهم نسوا أن الناس كشفوا كل ألاعيبهم التي باتت واضحة للقاصي والداني. إنّ المحتجين وأحرار هذا الشعب المقهور، وبالأخص الموجة الاحتجاجية الأخيرة (تشرين) ستنهي عهدهم على اعتبار أنها لن تحدث هزة لهم أو تغيرهم.
نعلم أنّ كل تخبطاتهم هي الخشية من احتجاجات عارمة، لأنهم يدركون تمامًا خطورة "خط تشرين"، والوعي الشبابي النابع من شعور عميق بالانتماء إلى وطنية عراقية صاعدة، تؤمن بأن الاستقلال السياسي عن الجارة إيران ودول الجوار الأخرى، هي مداخل لعزل الطبقة السياسية عن المشهد، لذلك يتخبطون بإقرار قوانين همها بقائهم في السلطة، وخوفًا من الاحتجاجات، التي شكلت لديهم عقدة وبالأخص أبناء تشرين.. إنهم يسلكون كل الطرق غير المعبدة من أجل إشغال الجماهير عن واقعهم المزري، إضافة إلى إجهاض شعار المحتجين المتمثل بـ"نريد وطن، وحقوقنا المنهوبة". إنّ الشعارين اللذين يدركون خطورتهما عليهم، يؤشران لتفاعل واضح للنزعة الوطنية مع النزعة المساواتية التي رسخت في ذهن الجماهير.
إنّ المظلومية وفقدان المساواة، رديف جدلي لتغييب مفهوم الوطن المانح للهوية والكرامة والعيش بسلام وأمان. أقول إنهم يدركون تمامًا أن احتجاجات ستندلع تطالب بتحولات ديمقراطية وعدالوية في البنى السلطوية، وتوفير الخدمات وتحسين الظروف الاقتصادية، والتخلص من هذه الطبقة الفاسدة التي يتم التحكم بها من الخارج، وحتى اقتسام المغانم بين الفصائل المسلحة والأحزاب الطائفية التي تدير عجلة السلطة يكون من الخارج. إن محاولة التضييق على الحريات، تأتي للهروب من أسئلة انغلاق الأفق السياسي وتراجع قدرة المؤسسات السياسية على استيعاب مطالب الشعب،وإيجاد ممكنات بديلة، ولهذا لا توجد لديهم حلول إلا المسير على ذات المنهج الذي تعاملوا فيه مع الاحتجاجات بوصفها تهديدًا وجوديًا لحكمهم، بدلًا من اعتبارها سخطًا عامًا عليهم يستدعي البدء بإصلاحات. إن تخبط السلطة بإقرار قوانين على طريقة شرطة الآداب هو سعي لبناء شمولية ثيوقراطية طائفية بالكامل للسيطرة على الفضاء العام، لكنه تخبط لن يدوم، لأن من لا يلجأ للإصلاح في أوقات كهذه، ستنهيه أسئلة الحقوق والمطالب المشروعة.