لا يقل ملف أمن المياه أو الأمن المائي أهميةً عن باقي الملفات ضمن تأمين الأمن القومي العالمي وبالأخص العراقي، كونه يُعدّ بمثابة الشريان الأبهر الذي يقوم عليه الأمن القومي العالمي، وهو الاقتصاد، بشقيه (الزراعي والصناعي) إذا ما أضفنا التجاري، وفي بلد كالعراق تكاد تنعدم فيه الصناعة ويتحول البلد إلى سوق مفتوحة تستورد أكثر من 90% من احتياجات البلد، فإنّ الزراعة تتصدر مشهد الأمن القومي المحلي، خاصة وأن الأمن وصناعة السلام لا يمكن أن يتحقق في البلدان الفقيرة اقتصاديًا، خاصة في قطاع الزراعة، ولطالما ارتبط مصطلحا الزراعة واستصلاح الأراضي بالهوية الأمنية للبلدان، وعملية حصر القبليّة وما يحاذيها من البداوة ضمن قنوات التطرف العنيف بعيدًا عن المدن ومراكزها الحضرية. ولو تتبع القارئ نشوء التطرف العنيف والإرهاب في الشرق الأوسط لوصل إلى نتيجة حتمية مفادها أن البوادي والقرى النائية هي محط رحال الأفكار الفوضوية الإرهابية والمتطرفة على عموم التجارب، ابتداءً من مصر وتونس واليمن مرورًا بالعراق وسوريا.
فقد العراق حوالي نصف حصته المائية خلال 19 عامًا
ومنذ انتهاء حقبة الملكية الحاكمة في العراق في العام 1958، والعراق يعاني من التعديات السياسية الخارجية على أمنه المائي (أمن المياه)، المشكلة التي بدأت منذ أكثر من نصف قرن وقامت على أساسها مشاكل دبلوماسية، فضلا عن حرب الثمان سنين (1980 ـ 1988)، فيما بقيت هذه المشكلة تلوح في الأفق بين فترة وأخرى كتهديد كبير على الأمن القومي العراقي، والسيناريو الأخطر المتعلق بأمن المياه في العراق ما إذا ترك حبل السياسة المائية (ملف المياه) الهش على الغارب، فأنّ العراق بلا ماء كليًا في العام 2040 للميلاد، أما على المدى شبه المتوسط، فإن العراق أمام خطر الجفاف الكبير في العام 2025.. هذه السيناريوهات المتوقعة تجاه أمن المياه في قابل السنين القادمة؛ أما السبب فهو:
في بلد مثل العراق تبلغ مساحته حوالي 438 ألف كيلو متر مربع، بإجمالي سكاني يقدر لهذه السنة 2022 حوالي 41 مليونًا و150 ألف نسمة، بمعدل زيادة عن العام السابق مليون نسمة تقريبًا، حسب وزارة التخطيط العراقية.منذ العام 2003 حتى العام الحالي 2022، فإنّ العراق فقد حوالي نصف حصته المائية، ويعود ذلك لأسباب سياسية داخلية وخارجية ليست موضع الحديث، فحاجة العراق للمياه سنويًا حسب مقاييس الأمن المائي الاكتفائي هي 53 مليار متر مكعب سنويًا، أما حاجة العراق من المياه لهذه السنة ـ العام الجاري ـ فهي تُقدر حوالي 75 مليار متر مكعب من المياه لسد النقص الحاصل نتيجة تقنين المياه المتدفقة من (تركيا وايران)
كما أنّ فقدان مليار متر مكعب واحد يعود بأضرار جسيمة على الثروة الزراعية في العراق (النباتية والحيوانية)، إذ تشير التقديرات إلى فقدان العراق لـ 260 ألف دونم من الأراضي الزراعية والعدد قابل للزيادة، تارة بسبب نقص المياه المتدفقة للأراضي العراقية، وتارة أخرى لتخوف المزارعين وساكني الضفاف والمصبات والمجاري النهريّة من الخطر القريب الداهم، فضلًا عن أسباب أخرى تتعلق بغزو المنتج الأجنبي للأسواق العراقية المحلية وتعويم المنتج المحلي.وتُقدر المساحة الحضرية بعدد النسمات في العراق حوالي 70% من أراضيه، فيما تُصنف المساحات الباقية المقدرة 30% على أنها مساحات ريفية وأقضية ونواحٍ بعيدة ليست ضمن الخاصرة المدنية، وأن مساحة العراق الحضرية (المدنية) هي في الحقيقة مزيج ما بين سكان المدن والنازحين ـ خلال الحقب السابقة ـ من مناطق الري والزراعة، بالتالي فأنّ هذه التوليفة غير المتجانسة ألقت بظلالها سلبًا على روح التمدن في العراق واكسبته قبليّة نامية في ظل التعثرات السياسية تارة، والرهان الحزبي الضيق ذو الأهداف الخاصة تارة أخرى.
في كتاب (سوسيولوجيا المجتمع العراقي بعد العام 2003) يشير الكاتب إلى أن إضعاف منظومتي الأمن والقضاء في البلد من قبل القوى المحلية والقوى الإقليمية، أدى بالنتيجة إلى ولادة قناعات لدى الجماهير بأن حمل السلاح والالتجاء إلى الأعراف القبلية وتكوين الجماعات الخاصة (الدفاعية) بديلًا عن اللجوء للقضاء العراقي، الذي بات مُكبلًا إلى حد ما، بسبب التدخل السياسي وضعف الأجهزة الأمنية، التي يعتقد المواطن أنها في صورة من صور العجز عن حمايته، أضف إلى ذلك؛ البلطجة التي مارستها القوى المتنفذة بعيدًا عن روح الدولة والتشريعات الدستورية والقانونية، وبمرور السنين، صار الاحتكام إلى الأعراف القبلية حالة شائعة حتى لدى السلوك السياسي لبعض السياسيين العراقيين، الأمر الذي نقل هذه التجربة من الحالات الخاصة إلى حالة شبه الإعمام تقريبًا في بعض محافظات العراق وخاصة الجنوبية منها، التي شهدت "عفرتة" كبيرة لبعض العشائر، حالت دون سيطرة الدولة على نزع فتيل تطرفها العنيف.
ومن مخاطر التطرف العنيف في النزوح العشوائي، أن النازحين لا يملكون ما يكفي من الأموال والخيارات، فتظهر الاختيارات على الأحياء قابلة السكن والمناطق الفقيرة، خاصة تجمعات الأحياء العشوائية منها، وهذه الأحياء ـ على الأغلب ـ هي بيئة مثالية لانتشار الجهل ومخلفاته من هيمنة السلوك القبلي والممارسات غير القانونيّة، على رأسها تعاطي وتجارة المخدرات والانتماء للكيانات والجماعات والحركات المنببثقة من الأحزاب التي لا تمتثل لأمر الدولة.
لذا، فإن أمام النازحين من المناطق الزراعية التي أصيبت بالشلل الزراعي وفقدان الوفرة المائية خيار واحد يتمثل في الأحياء الفقيرة في أطراف المدن والبعيدة منها.. ذات الوقت تنحصر الخيارات المرة في هذه المناطق بين أن تكن هذه الشرائح النازحة بين خياري (الضحية والجلاد)، فتختار الخيار الثاني من أجل صراع البقاء وتمارس أساليب التكيف المتطرف للبقاء على قيد لقمة العيش والأمان المصطنع، أما الشرائح الأخرى النازحة عشوائيًا، فغالبًا ما تَتصف بروح الأعراف والبداوة القبليتين، والتي ستكون جاهزة ومستعدة لمكافحة ضراوة العيش بضراوتها الخاصة "الأعراف القبلية".في الرقع الجغرافية التي تتسم بواقع اقتصادي جيّد مثل محافظة كربلاء، التي تتسم بوفرة من السياحة الدينية وإتاحة فرص العمل في القطاعات الخاصة التجارية، فأنها رقعة جغرافية مثالية للاستيطان وقبلة للهجرة العشوائية، ومن يسكن هذه المدينة ويحاذي هذه الشرائح المنكوبة (المُتعبة) سيتعرف على وسائل (الإلهام والتشجيع) التي يمارسها النازحون في هذه المدينة تجاه ساكني المناطق الزراعية المهددة بخطري الجفاف والتصحر، مما يعود بهجرة عشوائية تشجيعية خاصة بعد فقدان الحكومات المحلية بوضع حد لهذه الهجرة، فضلًا عن العجز الكبير لدى الحكومة المركزية بمعالجة أزمتي الجفاف والتصحر.
بالنتيجة، فإنّ البرامج الإنمائية الخاصة بمكافحة التطرف العنيف عليها أن تنطلق من هذه العينات أولًا، ومن ثم تضع البرامج الخاصة بنزع فتيل البارود البشري المتطرف، كما يجب وضع الخطط للحؤول دون زحفها التدريجي تجاه الأحياء المتاخمة لمراكز المدن ثم الزحف نحو المراكز بعينها
. إن انتشار عناصر الأمن قد يحتوي الجريمة إلى حد ما، لكنه لا يستطيع أن يحتوي الأفكار المتطرفة، فالتطرف قد لا يظهر بالدرجة الأساس بالوقت الحالي بأوضح تجلياته، وهذه هي المشكلة، كون بقاء الفكر المتطرف تحت الرماد هو في الحقيقة اتساع لتلك الأنشطة، أضف إلى ذلك، فأنه يشكل تمهيدًا لاشتعال متطرف مستقبلي كبير غير قابل للاحتواء والسيطرة.تُقدر المساحة الحضرية بعدد النسمات في العراق حوالي 70% من أراضيه
وبيت القصيد، أن الحلول المؤسساتية ذات العلاقة والمسؤولية المباشرة هي الحل الأول لهذه المشكلة الآخذة بالاتساع، يأتي بعدها دور مراكز الدراسات الاستراتيجية والمنظّمات، واعتقد أن الوصول إلى أرقام وإحصاءات خاصة بهذا الملف ستسهل فهم الآليات بدقة، وتساهم بوضع خطط معالجة على المديين القريب والمتوسط، كون هذه الشرائح البشرية والرقع الجغرافية تعاني من إهمال ـ إلى حد ما ـ لعد الالتفات لها منذ البداية وتشخيص هذه الآفة مبكرًا، فالأرقام لا تعكس الحقيقة، لكنها بصورة رئيسة تعكس الواقع، لذا تبدأ الحلول بالإحصاءات وتنتهي بها.