لعل واحدةً من أغرب المفارقات التي نعيشها منذ عام تقريبًا، والتي لا تحدث إلّا في ديمقراطية يصممها السيد بريمر، هي أن الخاسرين في الانتخابات لم يكتفوا بتفريغ معنى الأغلبية وحرمان الفائزين من استحقاقاتهم الطبيعية، بل وصلوا، بفضل هذه الديمقراطية، إلى مراحل من الهيمنة تمكنهم من تشكيل ملامح المرحلة المقبلة أيضًا.
لم يكتف الخاسرون في الانتخابات الأخيرة بحرمان الفائزين من استحقاقهم بل وصلوا إلى مرحلة الهمينة على المرحلة المقبلة
هذا يا سيدي وإن كان كلامًا مكررًا ولكن في تكراره فائدة، إذ لعله يسهم في عرقلة التطبيع مع ما هو شاذ قياسًا بقيم الديمقراطية ومبادئها، وبالتالي عرقلة التأسيس لعرف شاذ آخر في ظل ديمقراطية شاذة قلَّ نظيرها في التاريخ.
من مساوئ الحديث عن هذه المفارقات الغريبة هي الاضطرار، في كل مرةٍ نتحدث فيها عن الحالة العراقية، إلى العودة لسرد بديهيات الأمور وتكرارها مرةً بعد مرة إلى حد التثاؤب من شدة الملل، فهي أشبه بجمع الماء بوعاء مثقوب وتكرار العملية إلى ما لا نهاية.
ولكن، وهذه محنتنا، لا سبيل لفهم ما يجري، من وجهة نظرنا، إلّا عبر الانطلاق من عدة بديهيات: أن هذه العملية السياسية غير محكومة بقواعد الديمقراطية، وأن هذا النظام السياسي لا يعمل في ظل مؤسسات دولة، وأن القوى السياسية لا يربطها عقد سياسي بقدر ما تربطها صفقات مؤقتة، وأن الانتخابات تأخذ ضروريتها، بالنسبة لهذه القوى، فقط لأنها المحدد الوحيد لشكل الصفقات التي ترسم شكل العلاقة بينها بدلًا من الاحتكام إلى السلاح.
من هذه البديهيات التي يفترض أننا متفقون عليها، يتشكل واقع يقول إننا أمام قوتين شيعيتين مسلحتين وصلتا، وفق مخرجات الانتخابات الأخيرة، إلى توتر وتناقض لا يمكن معه منع الصدام. ولأن الصدام في لحظتنا هذه، وفي سياق ظروف إقليمية ودولية متوترة هي الأخرى، فأنه مُكلف للغاية. لذا، ربما سيؤجل الصدام إلى حين. أقول ربما سيؤجل إلى حين، لأن الحالة في العراق غير قابلة للتنبؤ في مجملها، ولكن وفق هذه المعطيات وعلى افتراض أن زعامات هذا النظام لن يحتكموا إلى غير عقولهم، فأنه سيؤجل.
ربما يؤجل الصدام بين القوتين الشيعيتين المسلحتين لأسباب تتعلق بظروف إقليمية ودولية متوترة
على أية حال، وبناءً على البديهيات والافتراضات السابقة، ستذهب القوى المتصارعة إلى صفقة ما للقفز على لحظة الصِدام التي كنّا أمام "بروڤة" لها في المنطقة الخضراء قبل أسابيع، وسيجري وأد الفتنة ـ كما تحبذ أجهزتهم الدعائية. ومع قليل من التنازلات والضغوطات الخارجية، ستجرى الانتخابات المبكرة وفق شروط مرضية للأطراف المهيمنة، وكفى الله المؤمنين القتال.
ما هو مؤكد في فضاء محكوم بمنطق القوة، بمعناها الضيق، أن القوى الأكثر قوةً هي المستفيدة من أي صفقة مقبلة (من الأكثر قوةً من المسلحين في هذه البلاد؟)، ومن المؤكد أيضًا، أن المسلحين الخاسرين في الانتخابات لا خيار أمامهم إلّا تقويض المنظومة الانتخابية التي تسببت بخسارتهم، أي قانون ومفوضية الانتخابات. أما على الطرف الآخر في هذا الصراع، يسعى الفائزون لتقويض المنظومة التي أفرغت فوزهم من محتواه.
هذا ليس اكتشافًا كبيرًا بل في سياق المسلمات. وعلى هذا الأساس يمكن تصوّر شكل الصفقة: بعض التغييرات على قانون الانتخابات وآليات العد والفرز، مقابل تغييرات على الجهاز القضائي أو بعض التفسيرات الجديد للمواد القانونية الخاصة بالكتلة الأكبر. هي صفقة للسفر عبر الزمن، للعودة إلى لحظة ما قبل تشرين تحديدًا.
هذا السيناريو أعلاه، إذا ما حصل، فأنه يفرز سؤالًا بسيطًا لكن أعتقد أنه وجودي بالنسبة للقوى الراغبة بالتغيير أو تلك التي تطرح نفسها بديلًا سياسيًا ـ هناك من يطرح نفسه بديلًا سياسيًا لقوى تستمد شرعيتها من سلاحها. هذه ليست نكتة. هناك من يعمل وفق هذه الرؤية فعلًا! - لكن السؤال هو: على حساب من ستعقد هذه الصفقة؟ من هو المتضرر منها؟ على أي عنصر ستتآمر القوى المهيمنة لتشطبه من المعادلة؟
نتصور عقد صفقة تشمل تغييرات في قانون الانتخابات وآليات العد والفرز وكذلك ضمن الجهاز القضائي أو تفسيرات الكتلة الأكبر
الجواب بسيط: من جاءت به هذه المنظومة الانتخابية بقانونها ومفوضيتها، سيحذف من المعادلة بقانون ومفوضية جديدة. المستقلون وحدهم من سيخسر. هم العنصر الطارئ. زخمهم الكبير هو ما أحدث الاختلال في عملية مصممة لتسير بتوازنات قائمة على حسابات ذرية.
أمام هذه المعطيات، تبرز مشكلتان، أظن ـ وليس كل الظن إثمًا ـ أن غالبية النواب المستقلين لم يشخصوها إلى الآن. الأولى هي أن موقف المعارضة لم يعد كافيًا، فعدم التصويت على أي حكومة مقبلة، أو حتى عدم الحضور إلى جلسات البرلمان أصلًا، لن يؤثر على المسار الذي ستمضي إليه القوى المهيمنة؛ ذلك أن انحسار حالة الاستقطاب الشديد بين طرفي الصراع أعاد النواب المستقلين إلى حجمهم الطبيعي: مجرد 20 صوتًا لا يقدمون ولا يؤخرون في ظل إجماع ثلاثمائة آخرين! وهذا معناه أنهم فقدوا ميزة المساومة السياسية، أي لم تعد لديهم خيارات كثيرة ولا فرص للتفاوض بشروط أفضل.
أما المشكلة الثانية، هي كيفية تعويض فارق القوة الذي سيفقدوه، إذا ما توافقت البيوتات الطائفية، وتحققت حالة الإجماع، للتأثير على شكل الصفقة المقبلة، فهم بلا عدد مؤثر داخل المجلس ولا مواقع مهمة ولا أموال ولا جماهير عقائدية ولا سلاح؛ عراة وسط الذئاب.
كل ما يملكه المستقلون هو جمهور متوجس يتعامل معهم بريبة عالية وحساسية شديدة جدًا. أكثر من ذلك، لا يملك هؤلاء النواب المساكين ما يكفي من الوقت لترتيب أوراقهم. هم في سباق مع الزمن ضد قوى متمرسة تمتلك ما يكفي من الخبرة والأدوات. هذه محنة حقيقية، خلطة عوامل تسد الأفق تمامًا إلى حد يبدو الحديث عنها كدعوة للاكتفاء بالتفرج على القوى التقليدية وهي تبتلعهم.
بالنسبة لقوى ليس لديها رأسمال سياسي سوى جماهيرها المبعثرة، أفترض أن البديهي هنا هو الاستثمار في هذا الجمهور وليس الاستثمار والمغامرة في عملية سياسية وسط قوىً تتآمر على وجودهم.
في حال توافقات البيوتات الطائفية فسيكون المستقلون مثل عراة وسط الذئاب
ربما يعتقد الكثير من النواب المستقلين أن وجودهم في البرلمان في الفترة المقبلة أجدى سياسيًا وأنفع للتحضير للانتخابات المقبلة، لكن، ورغم كل ما قد يجادلون به لإثبات أن استمرارهم ضروري في موقع النيابة، إلّا أنه لا قيمة لحججهم أمام حقيقة أنهم قلة قليلة قبالة جيوش من المسلحين الماسكين بالسلطة، وأمام حقيقة أن رأسمالهم الوحيد، إذا ما استمروا داخل هذه العملية السياسية، سيتآكل بالتقادم،وحينها لن يكونوا مجرد عراة أمام الذئاب وحسب، بل فرائس سهلة لن يكلف اصطيادها الكثير من الجهد.
لسنا هنا بمحل طرح حلول جاهزة، بل هي دعوة للنواب المستقلين للتفكير بجدية بفكرة الاستقالة من مجلس النواب، واستثمار الوقت المتبقي في ترتيب البيت الاحتجاجي، وتنظيم أنفسهم بصيغة تتلائم مع المتغيرات المقبلة على المنظومة الانتخابية، والاستفادة من الأخطاء البدائية الكارثية التي سقط فيها معظمهم. هذا عوضًا عن إهدار الوقت وتآكل بيتكم ورأسمالكم الاحتجاجي. أقول هذا رغم إدراكٍ عميق أننا وإياكم ندور في حلقة شر مفرغة نعيد فيها ذات الأخطاء والكبوات، ولكن هي ذكرى، لعل الذكرى تنفع المؤمنين.