قد يكون أبرز شِعار تم استعماله مِن قِبَلِ معظم النُّخب السِّياسيَّة التي لم تُغادر المشهد العام منذ صناعة نظام ما بعد 2003، هو شِعار "حصر السِّلاح بيد الدَّولة"، ولم يقتصر استعمالهم إياه في المقابلات الصحفيَّة الروتينيَّة فحسب، بل تعدَّى الأمر ذلك لتضمينه كمادة أساسيَّة في برامجهم الانتخابيَّة، بوصفه ضرورة مُلحَّة تحفظ السِّلم الأهلي مِن جهةٍ، وتعزيز مدى جدوى ديمقراطيتهم المضطربة مِن جهةٍ أُخرى.
تحول السلاح المنفلت إلى كابوس خطير يجثم على صدور العراقيين
ومِنَ الجدير بالذِّكر، بأنَّ مسألة "السِّلاح المنفلت" كانت مِن أوضح المسائل التي أسفرت عنها عملية غزو العراق في نيسان 2003. وقد تَحوَّلت هذه المسألة فيما بعد لكابوسٍ خطير باتَ يجثم على صدور العراقيين، وساهمت بتهديد حاضرهم ومستقبلهم. بناءً على ذلك، تكون الدَّعوة لإنهاء وجود هذه الآفة القاتلة من قِبَلِ الشَّعب، هي دعوة طبيعيَّة لا تُثير الغرابة إطلاقًا، بوصفها من واجبات السُّلطات العليا. لكن الغرابة تكمن في تَمَلُّص النُّخب السِّياسيِّة مِن مسؤولياتها وشعاراتها المتعلقة بهذه النقطة الرئيسيَّة، بعد أن حقَّقت غاياتها وأهدافها وحصَّنت نفسها وسلطتها، مِن خلال توقيعها على مذكَّرات تفاهم وتحالفات داخليَّة وخارجيَّة جديدة، أجبرتها على نَسْخِ وعودها السَّابقة بوعود تافهة لا تعدو كونها شيبة في بحرٍ مِن القطن.
وما يُثير الغرابة والسَّماجة أكثر هو الازدواج الفاضح الَّذي تُمارسه هذه النُّخب الإسلاميَّة الحاكمة بحقِّ نفسها والدَّولة العراقيَّة على حدٍ سواء. فتارةً تَدَّعي بأنَّها ذات منطلقات دينيَّة في كيفيَّة إدارة شؤون أحزابها وبرامجها ووعودها، وسلك نقيض ما تَدَّعيه بعدما يَستَتِبّ لها الأمر تارةً أخرى. وكإنَّهم لا يريدون الإقرار بما جاء في تراثهم الدِّينيّ بشكلٍ صريح، وتحديدًا في القرآن الكريم: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة البقرة ٤٤]. هذا التَّوبيخ المباشر كافٍ ليجعلهم يخجلون من أنفسهم على ما اقترفوه مِن مخاتلة وازدواجيَّة واستغلال باسم المقدَّس الَّذي يُسايرونه علنًا، ويقدمون على الإيمان بكُلِّ أضداده سرًا. هذه حجتي عليهم مِن لُبِّ توجههم الدِّينيّ الَّذي يدَّعون وصلهم به.
علاوةً على ذلك، قام هؤلاء بتضليل العدالة، وتعاملوا مع مواد الدستور العراقي وقواعده بفوقيَّة وضربوه عرض الجدار، على الرغم مِن مشاركتهم الفعّالة في كتابته، بعد أن جِيءَ بهم مِنَ المنافي، عقب سقوط النظام السَّابق. ومِنَ المؤكد بأنَّ موضوع السِّلاح السِّياسيِّ-العقائديّ، يقع في مقدمة المواضيع التي تَمَّ التغافل عنها من قِبَلِهم بشكلٍ مباشر. حيث تَنصُّ المادة 8 من قانون الأحزاب السِّياسيَّة رقم 36 لسنة 2015: يُشترط لتأسيس أيّ حزب ما يأتي.. ثالثًا: "أن لا يكون تأسيس الحزب وعمله متخذًا شكل التنظيمات العسكريَّة أو شبه العسكريَّة، كما لا يجوز الارتباط بأيَّة قوة مسلحة". وتَنصُّ المادة 47 من نفس القانون المذكور أعلاه: "يُعاقَب بالسجن كلّ مَن أقام داخل الحزب تنظيمًا عسكريًا أو ربطَ الحزب بمثل هذا التنظيم، ويُحلُّ الحزب إذا ثَبُتَ عِلم الحزب بوجود التنظيم العسكريّ". ناهيك عن السِّلاح العشائريّ وجذوره التاريخية، ومدى حماية وجوده مِن قِبَلِ الأنظمة التي تناوبت على حكم البلاد، نتيجة للتخادم المتبادل والمصالح المشتركة بين جميع الأطراف.
أوّل مَن سلك الفوضى والبربريَّة وجعلها منهج متكامل في الحياة العراقيَّة، هي السُّلطات التي تعاقبت على حكم العراق. فمنذ تأسيس الدَّولة العراقيَّة الحديثة على يد البريطانيين سنة 1921 حتى الآن، والأدمغة التي تتحكم بمراكز القرار، تتخذ مِن الحمقى والفوضى "سُلَّم" للوصول لغاياتها الدنيئة. حتّى أصبح هذا الأمر سِيرة ينتهجها كلّ غبيّ لا يستطيع الوصول لمكانة عالية معينة بالذكاء الطبيعيّ والأساليب النظيفة.
أُجزمُ بأنَّ السُّلطات العليا "السِّريَّة منها والعلنيَّة"، فرحة جدًا بما وصل إليه حال الكتل البشريَّة هذه مِن تراجعٍ وعدم إنتاجيَّة وميل غير مبرر لكُلِّ ما هو زائف، وهرولة دائمة لبلوغ القمَّة بكُلِّ الطرق غير المشروعة. كيف لا، وهذه الكتل البشريَّة في قمَّة تبعيَّتها لتلك السُّلطات التي علَّمتها هذه السِّيرة الغبراء. وهذا الانمساخ ليس بالأمر المفاجئ أبدًا، بل هو نتيجة حتميَّة لكَم كبير مِن عمليات الطمس السِّياسيّ والاجتماعيّ والدِّينيّ التي تعرضت له هذه الجموع منذ عهود طوال. ولن يقف الأمر عند هذا الحد.