"كل هوية خرافة سعيدة، تقص أحسن القَصَصَ على المنتمين لها". فتحي المسكيني.
يمكننا أن نختلف على كثير من المواضيع لكن لا يجرؤ أي أحد منّا على التشكيك بهذه الحقيقة: أن التشيّع بشقيه السياسي والديني والاجتماعي ليس في أحسن أحواله. وأنا هنا أركز على الجدوى والمنافع المترتبة عليها ونسبة الأعداد المستفيدة من هذه الطبقة السياسية التي كانت "مظلومة" في السابق. ولا ننسى الكلمة المفتاحية هنا، وأعني بها كلمة الأغلبية.
عديدون يرون أن وصول "شيعة السلطة" إلى هذه المناصب هو نصر يستحق الوقوف والتضحيات
الجواب تجدونه عن سكّان الجنوب، وقاطع الرصافة، وبالأخص شرق القناة. ولا يحتاج الموقف إلى عبارات بلاغية، يمكن زيارة هذه المناطق المنكوبة لنكتشف أن بلاغة الواقع أكثر بما لا يقاس من بلاغة النص، وفي مثل مأساة الجنوب وشرق القناة سيكون من العسير للغاية أن نحصل على مطابقة منطقية بين بنية العبارة وبين حقيقة الواقع العياني. سيخبركم هذا الواقع معنى وحقيقة الأغلبية بدون رتوش بلاغية ومنطقية!
أن تجعل نفسك في الواقع سيكفيك معضلة الخطابات المثالية، وسيتّولد لديك السؤال التالي: ماذا فعل شيعة السلطة طوال السنوات العشرين؟ ليس هذا فحسب، فقد اعتاد الجمهور السعيد على حرفة الجدل و التبرير، لدرجة أنه يفضّل الجدالات المنطقية على الشواهد العيانية. وستكتشف الكثير من العبارات خالية من المعنى. مثلًا، فلنأخذ هذه العبارة "وضع الطائفة الشيعية أفضل من السابق"، ونحاول، مثلما افترضنا قبل قليل، فهم الواقع من خلالها، فسنكتشف على الفور مقدار الزيف الذي تكتنفه هذه العبارة.
أكثر من ذلك، أنها عبارة لا تقول شيئًا على الإطلاق؛ مجرد إنشاء فارغ من أي دلالة تقودنا إلى فهم ما جرى وما يجري حاليًا. نحن في ثقافة تعبد التبرير، وهي مستعدة لتزييف الواقع وإذلال نفسها مقابل أن تبقى محافظة على تلك الأوهام السعيدة التي تحيط بها من كل جانب. سيحتضن هذه العبارة "المنطقية" الجمهور الشعبوي الذي يرى مجرد وصول الشيعة إلى مراكز السلطة فهو نصر بحد ذاته. حتى انتصاراتنا تأخذ صيغًا منطقية ذات طابع تجريدي تبدو علاقته متوترة مع الواقع لدرجة التناقض الحاد، ولذلك ستواجه جيوش الحالمين والمبررين الذين يدافعون بكفاح عجيب ضد قيودهم المصطنعة.
الأمر المحير أنهم يمزجون بين هوياتهم الطائفية ومن يمثلها في السلطة السياسية، كما لو أن غايتهم القصوى هي السلطة فحسب بمعزل عن أي نتيجة مثمرة.
والمعترضون من الجمهور السعيد على ما ذكرناه من الاحتكام للواقع، سيجدون فسحة واسعة من الأعذار ليعززوا عنادهم والدفاع عن هذه الحقيقة المنطقية الجدلية الخاوية: أن التشيّع بوضعه السياسي والاجتماعي والديني هو أفضل بكثير من ذي قبل، إذ لم يعد الشيعة ضحايا فهم اليوم الطبقة المهيمنة بعد أن كانوا في أسفل دركات جحيم الاستبداد البعثي.إنهم الطبقة التي "تخطط" لسياسات البلد، ولهم اليد والطَول في السلطات الثلاث. حتى أنّهم، والحق يقال، مستمرون بتحطيم مبادئ الديمقراطية حبًا بـ "المكون الشيعي".
ومن يريد فهم الحقيقة، فكما ذكرنا أعلاه، فليستنطق الواقع، ويرى أين هذا المكون الذي يقاتلون من أجله؟قبل عدة سنوات، كنت أدردش مع سائق التاكسي بعد أن سألني عن رأيي بالعملية السياسية، ويبدو أن تشاؤمي المفرط أعطاه الإذن ليقاطعني بهذه النبرة: هل تريد الصدق؟ بالنسبة لي لا يزعجني على الإطلاق هذا الفساد السياسي المستشري طالما للشيعة حصة الأسد منه! لاطفته بالحد الذي يضمن تقليل طابع الجدية الذي اتسم بها "الحوار" لكي يبقى في مخيلتي ليس سوى حوار عادي مع شخص بسيط، لا تٌقاس مثل هذه المواضيع الجوهرية على ما يبديه من رأي شخصي يتعارض مع الرأي العام الشيعي. لكن، ويا للأسف، أكثر من شخص يؤيد هذه الأسطورة التي يتبناها سائق التاكسي. ومعظمنا سمع ذلك الروزخون كيف برهن للناس وأقنعهم بالذهاب للانتخابات، إذ يكفي، حسب زعمه، أن من يتصدى للحكم يردد هذه العبارة "أشهدُ أنَّ عليًا وليُّ الله".
لكن، ولكي نبقى خارج دائرة التحيّز، أترك الأمثلة والشواهد، وهي متوفرة بغزارة، ونكتفي بالتساؤلات، لأنها هي الوحيدة التي تطهّر الفكر من التحيزات، خصوصًا إذا كانت مصاغة بدافع الفهم، لكن كيف للجمهور السعيد أن يفهم؟