تحاول بعض الأطراف السياسية الشيعية أن تناور بالورقة الوحيدة المتبقية في جعبتهم، وأعني بها الورقة الطائفية. وهي حدث مفصلي يتسم بالخطورة، ويحيلنا، ربما، إلى أزمة مفتوحة تعتمد على تمايز جديد لم تشهده الأحزاب الشيعية سابقًا؛ إذ يجري هذا التمايز الطائفي بين أبناء الطائفة الواحدة؛ من لم يكن معنا فهو ضدّنا. وبهذا المنطق يتحدد الشيعي من غيره.
بعد طابور التسويات الطويل بين الشيعة والسنة والكرد ترجع الحياة إلى سابق عهدها: فساد، ومحسوبية، وهدر بالمال العام، وملفات مكدسة في رفوف هيئة النزاهة
وهذه مفاضلة خطيرة، وتكمن خطورتها في هذا التلويح المستمر بالورقة الطائفية داخل العمل السياسي. وعند هذا الحد تغدو الأمور ضبابية وعائمة، ويصعب على المرء تحديد هوية الدولة العراقية الجديدة. فما نشهده هو تداخل خطير بين الروحي والزمني دون أن يتم الحسم بينهما تمامًا. وربما هذه المعضلة ليست جديدة على الأحزاب الإسلامية بشقيها الشيعي والسني، حيث لم تحسم هذه القوى هوية الدولة في أدبياتها السياسية، ولم تشهد فصلًا حقيقيًا بين الدين والدولة على الإطلاق.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا تعني عبارة "البيت الشيعي"؟
لكنّ الجديد في هذه المعضلة، هو أن تقع مفاضلات ومعايير خطيرة داخل المذهب الواحد. وإذا كانت الأحداث التاريخية الطويلة التي تواجد فيها التشيع كمذهب ديني له ركائزه وأصوله الشرعية، لم يتعرض من خلالها هذا المذهب إلى هذه التصنيفات الخطيرة، فقد استطاعت هذه القوى السياسية، عبر الصراع المحموم على السلطة، أن تضع موضع قدم جديد تجري من خلاله أسس ومعايير جديدة لتحديد الشيعي من غيره.
ما هذه المعايير الجديدة؟ أن يكون التوافق، والتسويات، شرطًا أساسيًا يتقدم على كل الاستحقاقات الديمقراطية. أي أن مفهوم الأغلبية الديمقراطية خط أحمر، طالما لم يضمن التوافق مع الأطراف الشيعية الأخرى. وبهذه النقطة بالذات تبيّنت معالم العملية السياسية في العراق: ظاهرها ديمقراطي، وباطنها حلف طائفي مقدّس. ومن يحاول التلاعب بهذه التقاليد فسيكون مصيره النبذ والإقصاء بشتى السبل والآليات، حتى لو كان على حساب تهديد السلم الأهلي.
معظم السياسيين الشيعة يرددون هذه العبارة "المكون الشيعي" في كل منعطف سياسي تفرزه الانتخابات البرلمانية. وفي كل دورة انتخابية محمومة يتصاعد الحماس الطائفي إلى أقصى حد. وبعد طابور التسويات الطويل بين الشيعة والسنة والكرد، ترجع الحياة إلى سابق عهدها: فساد، ومحسوبية، وهدر بالمال العام، وملفات مكدسة في رفوف هيئة النزاهة. ويتضح للعراقيين فيما بعد، أن كان ثمّة شيء ليس بالحسبان فهو المذهب. ويتضح لهم جليًا، أن المذهب أضحى عبارة عن ورقة سياسية يتلاعب بها القوم من أجل مكاسبهم الشخصية.
وبالعودة إلى عبارة "المكون الشيعي"، لا ندري حتى هذه اللحظة ماذا يعنون بهذه العبارة: الناحية الدينية الصرفة، مثل الفقه، والأصول، وعلم الكلام، والتفسير، وغيره، أم أنهم يقصدون البرنامج السياسي وإدارة الدولة؟ فالشق الأول، كما هو معلوم، تتولاه المؤسسة الدينية، أما الثاني فتتولاه نخب سياسية تمتلك الرؤية والمشروع، وهذا الأخير فشلت به الأحزاب الشيعية فشلا ذريعًا. اللهم إلا إذا كان المقصد من هذه العبارة هو دمج السلطة الروحية والزمنية معًا. قم أن معايير الفشل والنجاح في إدارة الدولة لا نحدده الأصول المذهبية، بل ستساهم الورقة الطائفية بمزيد من الارتداد والرفض للخطاب الديني.
لكن على ما يبدو، أن شيعة السلطة ليسوا معنيين على الإطلاق بهذه المخاطر الجسيمة، فكل شيء مباح طالما يوصلهم إلى كرسي السلطة.
لكن ربما يتصرفون باعتبارهم سلطة روحية؟ بحسب معلوماتي لا أحد خولهم من مراجع الدين بالسلطة الروحية، ولا يوجد مرجع ديني في العراق أوكل إليهم هذه السلطة بالنيابة. فلا يبقى سوى السلطة الزمنية (الدنيوية) التي لا ينطلقون منها اعتمادًا على الفتوى الشرعية. فالعملية السياسية تجري حسب الأصول المعمول فيها من قبل سلطة الاحتلال التي أشرفت على وضع الدستور. باختصار: إنهم يمارسون العملية السياسية طبقًا للأعراف الديمقراطية حسب الظاهر.
ويقد يقال إن ما ينطبق على الأحزاب الشيعية، ينطبق كذلك على السنة والكرد، وهذا صحيح تمامًا، فالآخرون ليسوا أفضل حالًا من غيرهم، فهم في الفساد ملّة واحدة، وهذا دليل أضافي على أن العلمية السياسية لا تجري حسب الأصول الشرعية! وقد يقال أيضًا إن الشيعة يطالبون باستحقاقهم كونهم الأغلبية. لكنّها أغلبية طائفية، أما السياسة فتحددها صناديق الاقتراع. وبمعزل عن هذا كلّه، فللشيعة قصب السبق في مؤسسات الدولة؛ فالوزارات، والمناصب الإدارية المهمة، ومراكز صنع القرار هي بيد الشيعة. فبكل الأحوال لا يوجد غبن صريح لاستحقاقات الشيعة. فسواء اعتبرنا الشيعة كمكون اجتماعي واسع، أو مكون مذهبي، فبكل الاعتبارات يتمتع هذا المكون بتمثيل واسع في البرلمان. فيتّضح من ذلك كله، أن عبارة "المكون الشيعي" تنطوي على مدلولات ومزايدات حزبية ضيّقة لا طائل من ورائها.
ثم أن الفئة المتمسكة بهذه العبارة لم تبرهن، لا دينيًا ولا دنيويًا بنجاحها في العملية السياسية، ولم يفلحوا بتحسين حياة الشيعة، ما عدا "صحابتهم"، وتابعيهم، وتابعي تابعيهم. أما الشيعة بعمومهم، بكلا الاعتبارين اللذيَن ذكرناهما، فأذهبوا إلى الجنوب وفروعه الموحشة في قاطع الرصافة وعشوائياتها المقدسة، وأنظروا ماذا حل بهذا المكون الشيعي.
اقرأ/ي أيضًا: