بعد أن حرق الصدريون جميع الأوراق السياسية التي كانت بحوزتهم، وبعد سلسلة طويلة من الاحتدام السياسي الذي كان ينذر ببوادر احتراب داخلي بين الصدريين وخصومهم، سلّم الصدريون في نهاية المطاف بالعرف السياسي السائد والمعمول به منذ بداية تشكيل النظام السياسي العراقي الجديد: مبدأ التسويات. ضمن هذا المشهد السياسي المضطرب، والذي كانت نتائجه معلومة سلفًا، رجع الخصوم إلى المربع الأول، وذهبت فكرة الأغلبية والمعارضة أدراج الرياح، وسيرجع القوم إلى عاداتهم القديمة في خامس حكومة تُشكّل بعد غزو العراق؛ ائتلاف شيعي واسع يضم الجميع قائم على التسويات السياسية. والخاسر الوحيد في هذه المعمعة هو الديمقراطية. أما الناخبون لا تنطبق عليهم معايير الربح والخسارة، ذلك أن مبدأ الطاعة والانقياد هو الأرضية الصلبة التي ينطلقون منها.
ربما سيكتفي الصدريون بمنجز ترشيح جعفر الصدر لرئاسة الوزراء وترجع "سُنّة" التوافق كمحرك أساسي لسير العملية السياسية في العراق
قد يُرفِعَ "الفيتو" الصدري كليًا عن المالكي الذي كان يلوح به الصدريون الأيام الماضية. خصوصًا أن المالكي أثبت عدة مرات أنه خصم صعب المراس، ولا يمكنه الاستسلام بهذه السهولة التي كان يحلم بها الصدريون. وربما كان الصدريون يعلمون بذلك جيدًا، ولعلهم كانوا يمنّون النفس ببعض المكاسب وممارسة بعض الضغوط التكتيكية. أيًا كان الأمر، فالشواهد العملية أصدق أنباء من كل الشعارات. وأصدق ما نشاهده على الأرض هو هذا الكفاح الشرس ضد كل عملية تغيير تجعل من هذا النظام السياسي المعقد يحتكم على أسس ديمقراطية، فهذه الأخيرة وسيلة إكراه عظيمة ضد السلطوية، ومن منّا لديه رفاه الاختيار لو تعلق الأمر بمغادرة السلطوية؟!
اقرأ/ي أيضًا: صراع الجمهورية.. المقاطعة وسيناريو 2018 مقابل "نضوج" التحالف الثلاثي
تخبرنا الوقائع مرة أخرى أن المصالح مقدمة على المبادئ في السياسة. وهذا ليس عيبًا على الإطلاق فهي تشكّل روح السياسة. وإنما يكمن العيب حينما لا نعترف بهذه الحقيقة بمزيد من المراوغة والتناقض بالشعارات؛ ففي سلوكهم العملي يثبتون للقاصي والداني بداهة الممارسة السياسية القائمة على المصالح، أما الشعارات فلا تتنكر للجنوح العقائدي، الذي أصبح غير مقنع حتى لبعض جماهيرهم.
المهم في الأمر، ربما سيكتفي الصدريون بهذا المنجز المهم بالنسبة لهم، وأعني به احتمالية ترشيح جعفر الصدر لرئاسة الوزراء، وترجع "سُنّة" التوافق كمحرك أساسي لسير العملية السياسية في العراق. معظم المؤيدين لمفهوم الأغلبية كانوا يعلمون جيدًا أن القضاء على المحاصصة أمر مستبعد وأقرب للاستحالة، وإنما كانوا يترقبون إصرار الصدريين على إزاحة المعسكر القديم. والخلاصة: ربما لم يعد بإمكان الصدريين إحداث فارق نوعي بصيغة المحاصصة المعمول بها؛ فللسنة والكرد مناصبهم المضمونة، والشيعة أولى بهم من ذلك، وهكذا دواليك.. بمعنى حتى لو انقسم الشيعة إلى أحزاب ذات برامج انتخابية مختلفة فالحميميات المذهبية شرط مسبق قبل كل عملية ديمقراطية، وهو الصوت الذي يخرس كل الألسنة. الأمل الوحيد المتبقي للمهتمين بالشأن السياسي هو النظر إلى الحكومة القادمة كيف ستتعامل مع الملفات الحساسة. والواقع السياسي مفتوح على كل الاحتمالات.
نفهم من كل هذا السباق المحموم، والخصومات التي طفت على السطح مؤخرًا بين سياسيي الشيعة والمحاولات الرامية إلى ترميم البيت الشيعي، أن شيعة السلطة لديهم خشية من تراجع مكاسبهم السياسية، إنهم قلقون من هذه الناحية، لكنهم لا يقدمون نموذجًا سياسيًا مقنعًا. وضع محير للغاية يجعل المرء يتساءل عن الأسباب والدوافع الحقيقية التي تقف خلف هذا الكفاح الغريب لتضخيم السلطة يقابله عزوف وتكاسل واضح عن بناء الدولة. وهم يعلمون جيدًا أنه لكي تكون مهيمن لا بدّ أن تُحسّن من الظروف الملائمة لبناء وحدة قومية (أعني بها الوعي بوحدة البلد) تليها قوة سياسية، واقتصادية، وعسكرية، موالية للبلد قائمة على أسس وطنية، مثلما نجد النموذج الإيراني المثير للأعجاب الذي يقاتل عن وحدته القومية مهما كان الثمن.
متى يدرك شيعة السلطة أن الكثرة الكمية لا تؤمّن على المدى البعيد شروط الهيمنة، بقدر ما تؤمّنها نوعية النخب الخبيرة والمحترفة، ومراكز البحوث الرصينة، ومراكز اتخاذ قرار لا تنجرّ وراء انفعالاتها. الرهان على العواطف المذهبية لا يبنى دولة على الإطلاق. ويخبرنا التاريخ أن أحد الأسباب الرئيسية في سقوط الإمبراطوريات والدول هو تفشي حالة الفساد، والمحسوبية، ما يجعل حدود البلد مستباحة من قبل الغرباء، ويصبح ذلك البلد وتاريخه أثرًا بعد عين. فماذا يفعل شيعة السلطة في ائتلافهم الجديد؟ وهل سيأخذون العبرة مما سبق؟ لا أظن ذلك.
اقرأ/ي أيضًا:
الثلث المعطّل: تهديد لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية.. وبرلمان لتصفية الحسابات
البارتي يعول على "غلطة صالح" لكسب الرئاسة.. واليكتي يتحدث عن ملفات تخدش الحياء