منذ العام 2003، ولم يزل يطلق على الديمقراطية العراقية وصف التجربة، وهذا وصف غير دقيق بالنظر إلى مرور عقدين من الزمن على عمرها. إنّ مرحلة التجربة والانتقال لا تستلزم كل هذه المدة، فالانتقال يتعلق بوضع الأسس مثل الدستور، والمؤسسات السياسية، وإجراء أول انتخابات، والعدالة الانتقالية ـ في حالة الحاجة إليها ـ وهذا المسار قد يتطلب أربع أو خمس سنوات. إننا تخطينا هذه المرحلة ليس نحو نجاحها، بل باتجاه تعثرها وفشلها في تحقيق المأمول منها، لنصل إلى مرحلة العجز والفشل، والدليل على ذلك أن من أهم قواعد الديمقراطية قبول الخسارة قبل الفوز، وهذا لا يتوافر في الحالة العراقية، فالكل معارض للسلطة ومشارك فيها في الوقت ذاته، إذ يتم الاعتراف بمخرجات الديمقراطية إن جاءت النتائج بما تشتهي الأطراف المتنافسة، وينتفضون ضدها إن جاءت على العكس من ذلك، ولدينا تجارب واقعية يمكن الارتكان إليها بهذا الشأن، فهي ممارسة انتخابية فقط، وليست فكرة ناتجة عن إيمان عميق بفلسفتها وشروطها. اليوم من الصعب الحديث عن تجربة ديمقراطية عراقية، بل نكوص ديمقراطي عراقي واغتراب تعاني منه هذه التجربة.
الجماعات العراقية قامت باحتواء الديمقراطية وأفرغتها من مضمونها الحقيقي
إنّ السبب الرئيس في ذلك ليس وجود عيبًا ما في الديمقراطية بحد ذاتها، بل الإشكالية أنها زرعت في بيئة لا تعد صالحة لها. إذ أن من شروط الديمقراطية أو لكي تنجح، فهي بحاجة إلى مجتمع يؤمن بخيار الحرية والفردية والتعددية، وقبول الآخر، وهي عوامل توفرت في المجتمعات الرأسمالية الغربية، لهذا نجحت الديمقراطية في تلك البيئة، ومن ثمّ، فإنها كانت نتاجًا لتطور تلك المجتمعات ولم يتمّ فرضها من أعلى، ويشير في الشأن ذاته المفكر العراقي الراحل فالح عبد الجبار أن من أهم مكتسبات الرأسمالية أنها سحبت الثروة من السلطة لصالح المجتمع، أي أنّ أهم عنصر صار بيد المجتمع، فهو من يصنع الثروة والسلطة وليس العكس، بالتالي أن السلطة هي بحاجة إلى رضا المجتمع وليس العكس.
أما لدينا، فكما يعلم الكثير من الباحثين في الشأن العراقي أننا دولة ريعية، أي أنها تعتمد على مصدر واحد للدخل، فضلاً عن سيطرة الريع النفطي على الواقع الاقتصادي، والأكثر خطورة هو سيطرة السلطة على هذه الثروة، بالتالي انتفت حاجتها للمجتمع، بل إن الأخير صار معلقًا بأهدابها علّها تلقي عليه بعض من فتات ثروة النفط، ويعد ذلك بمنزلة البركات والمكرمات التي تتفضل بها عليه، وأيضًا هنالك عامل آخر لا يقل أهمية عن عامل الريع والنفط ولعله أهم منه، وهو عامل العشائرية والأبوية والمحافظية، فالمجتمع العراقي يصنف ضمن المجتمعات المحافظة، التي تعلي من شأن الجماعة، والعشيرة، والشيخ على حساب الفرد، والصوت الحر، ومن ثم تعلي من قيم الانتصار، والمفاخرة، وتمقت الهزيمة، لذا أن رفض الإقرار بالهزيمة في الانتخابات، يعود بالأساس إلى هذه الثقافة التي ترى أن الهزيمة لصيقة بالعار، وما لها من تبعات اجتماعية يمكن وصفها بالوصمة الاجتماعية، لتنتفض العشيرة أو الجماعة من أجل مسح آثار هذه الوصمة، وإن كلفها دماء أبنائها، فسمعتها وهيبتها أهم من كل شيء.
بالتالي أنّ الديمقراطية لم تستطع احتواء المجتمع العراقي أو الجماعات العراقية، بل نجد أن هذه العوامل هي من احتوت الديمقراطية وأفرغتها من مضمونها الحقيقي، وصارت تكرس هذا الواقع أكثر مما تغيره، أو تضفي عليه الرتوش لتظهره بالمظهر الديمقراطي، وهو في الحقيقة ليس كذلك. ونجد أن صاحب السلطة استعار المفاهيم العشائرية إلى ميدان الدولة، ليس لأنه حاول الصاقها على المجتمع، بل إن نجاحه وديمومته يعتمد على ذلك! على أساس أن المجتمع يريد من صاحب السلطة الظهور بمظهر الأب الكبير الذي يرعى أولاده، ويحسن تربيتهم، ويكرمهم، وحتى يعاقبهم، فهو أب ويعرف مصلحة أولاده، لهذا نجد الألقاب من قبيل الأب المؤسس، والزعيم، وراعي الشعب، وأب العراقيين.. الخ. ولذلك أنّ فشل الديمقراطية هو استمرار لفشل بقية الأيديولوجيات، التي توالت على العراق في عصره الحديث والمعاصر، مثل: الشيوعية، والليبرالية، والعلمانية، والقومية، وعلى سبيل المثال؛ ينقل عن فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، قوله: "وإن كنا شيوعيين فإننا لا نريد تحقيق الشيوعية"، هذا يعني مدى وعيه بصعوبة المهمة، فضلًا عن أن الواقع العراقي غير مؤهل للبرامج والمفاهيم الشيوعية والاشتراكية (سليم الوردي، ضوء على ولادة المجتمع العراقي المعاصر).
وعليه ظلت هذه الأيديولوجيات لصيقة ببعض النخب، التي فشلت في تمريرها إلى المجتمع الذي يغلب عليه الطابع العشائري، الرافض لهذه التوجهات لأنها لا تتلائم مع ما يتبناه، فضلًا عن أنها وجدت في بيئات أخرى ترى أنها غير جديرة بالتقليد، وفي كثير من الأحيان نعتقد أن أنموذجنا هو الأفضل، وهكذا ظلت هذه الأيديولوجيات تعاني من الاغتراب والفشل حتى أن معظمها تعرضت للوأد. بالتالي نحن لا نمتلك طبقات واسعة متنورة، بل أغلبية واسعة من المجتمع عشائرية محافظة، تختار زعيمها بناءً على ما تؤمن به من قيم وتقاليد، تعلي من البطولة، والغلبة، والقهر، والفخر، وتريد من قائدها وزعيمها أن يتحلى بهذه الصفات، أي أن يكون بالمفهوم العراقي (سبع وما يخاف وشهم)، وبالمقابل تلغي الآخر وتقمعه، ويكون أمامها كل شيء مباح تقريبًا إزاء هذا الآخر.
ومن ثم في الوقت ذاته، حتى الدولة الحديثة، تعد فلسفتها غريبة على هذه البيئة، وظل ولاء الفرد إزائها يعاني الارتباك ـ إن لم يكن ينظر إليها بوصفها عدوة له ـ وفي معظم الأحيان تميل الكفة إلى انتمائه الفرعي على حساب الوطني، فنحن خرجنا من عصر الدولة العثمانية المظلم، نحو الدولة الحديثة بلا سابق إنذار، فارتبكنا وفشلنا؛ لأنها تجربة إسقاطية ليست ابنة هذا الواقع، الذي يؤمن بخيارات أخرى تبتعد كل البعد عن المفاهيم والتجارب، التي نبتت وترعرعت في بيئات أخرى لا تشبه بيئتنا البتة، فمن أهم أُسس الدولة الحديثة هو احتكار العنف المادي وحتى المعنوي، ووسائله، وقوانينه، وهو ما يتنافى مع القيم العشائرية التي ترى أن حيازتها على القوة، والسلاح، والرجال الذين يقدرون على حمله واستخدامه عند اللزوم، وأعرافها الخاصة، وهو يعد أهم عامل من عوامل مكانتها ومنعتها، وترفض بشدة التنازل عنها، مما يتنافى مع فكرة الدولة الرئيسة، ولهذا نرى استمرار الصراع بين الدولة وبين العشائر في العراق الحديث، ولم تجد السلطة من سبيل سوى مهادنتها، وإعطائها بعض المكاسب، حتى تضمن ولائها وعدم إثارتها للعنف والقلاقل.
السؤال هنا: هل العيب في المجتمع أم الديمقراطية؟
على ما أظن أن المشكلة ليست في الاثنين، بقدر ما أنها تكمن في محاولة إسقاط مفاهيم وتجارب نجحت في بيئات أخرى، على مجتمع آخر لا يتوافر على الشروط الموضوعية لنجاح الديمقراطية والشروط الأخرى التي أشرنا إليها سابقًا، ولم يمر بالسيرورة التي مرت بها تلك المجتمعات، التي ارتقت فكريًا، ومعرفيًا، واقتصاديًا قبل كل شيء، وما الديمقراطية إلا تتويجًا لهذا التطور وليس سابقًا عليه.النظام العراقي هو أشبه بـ"تحالف قبلي" وليس نظامًا ديمقراطيًا
وهنا نطرح السؤال الآخر هل من حلول؟
لعلّ أصعب مهمة قد يواجهها الباحث هي طرح الحلول والمعالجات، التي قد تأتي مبتسرة أو لا تتلائم مع الواقع، أو أن المجتمع يرفضها، فيعتمد على تجربته الخاصة وتقاليده وأعرافه، حتى أن المجتمعات الأوروبية لم تدرك تمامًا قيمة التنوير الفكري الأوروبي الذي أنتجه فلاسفة كبار، إلا بعد حربين عالميتين مدمرتين أنزلت القارة الأوربية من عرشها العالمي والإمبراطوري، لصالح قوى أخرى من خارجها، وهي: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، لتدرك بعدها الدول الأوروبية قيمة الفلسفة الليبرالية والديمقراطية.يمكن القول إنّ النظام العراقي الحالي هو أشبه بالتحالف القلبي أكثر مما هو نظام ديمقراطي، إذ يضم مجموعة من الأقطاب جميعها لا تؤمن بفكرة الدولة تقريبًا، ويتم توزيع حصص الريع عليها حتى يتم ضمان ولائها وعدم تمردها، وفي ذلك يشير الباحث الدكتور يحيى الكبيسي في مقالة كتبها على حسابه في "فيسبوك"، إلى أنّ الديمقراطية لم تكن خيارًا للنظام السياسي الحاكم، بقدر ما أن الظروف هي من فرضت عليها القبول بها مرحليًا، وما أن تمكنت من الواقع حتى بدأت تنقلب عليها تدريجيًا، بل وبدأت تفرض قوانين وأساليب لا تتفق مع الديمقراطية، حتى أن الكبيسي وصفها بـ"ديمقراطية الحسبة"، واتفق مع ما جاء به في مقالته وتحديدًا الجانب الذي أشرت إليه.