".. وللنرجسية الجماعية وظائف مهمة. فهي أولًا، تزيد تضامن الجماعة وتجعل الاحتيال أسهلَ بمناشدة الأهواء النرجسية . ثانيًا، أنها مهمة للغاية بوصفها عنصرًا يقدّم الإرضاء للجماعة، ولا سيما للذين لديهم أسباب أخرى للشعور بالفخر والجدوى. وحتى عندما يكون الشخص أشد الجماعة بؤسًا وفقرًا وأقلّهم نيلًا للاحترام، فهناك تعويض عن وضع المرء البائس". أيريك فروم
دائمًا ما أشدد على الاقتباسات التي أوردها هنا باعتبارها تصلح كنموذج تفسيري لوضعنا الراهن، اللهم إلّا إذا تحكّمت في نظرتنا الأهواء الفردية والجماعية على حد سواء؛ فلا تفسير لهذا الرفض سوى النرجسية نفسها، أي أننا ننطلق من أحكامنا الذاتية؛ فالنرجسي لا يقيم وزنًا للوقائع الموضوعية بقدر ما يلتصق بعالمه الداخلي فحسب، فترميم الذات عنده معزول عن ترميم العالم. ولا تختلف النرجسية الجماعية عن الفردية إلا من حيث كون الفرد اختار الانتماء للجماعة تعويضًا عن بؤسه، والتصالح مع حيّز أوسع يغطي حالة فقدانه لوجوده الفردي. تنبع نرجسية الفرد من اهتمامه الداخلي بنفسه، بينما يكتسب هذه الأهمية من داخل الجماعة. ما يفتقر إليه وهو فرد، سيحوزه وهو عضو في جماعة. فالفرد البائس والمستكين لا يشعره بوجوده إلا من حيث هو عضو في جماعة.
نجد أكثر المنتمين للجماعات في العراق هم الفئات الأكثر فقرًا؛ أحياء سكنية بائسة، ونسب تعليم متردية، والأعم الأغلب منهم ينحدر من أصول جنوبية
من الضروري حينما نعتمد نموذجًا تفسيريًا من مفكر، أو نستلهمه اعتمادًا من خبراتنا الشخصية، فينبغي أن تكون الوقائع الملوسة هي المرجعية الأساسية في تعيين خلاصة وافية لفهم واقعنا المعقّد. فبخلافه سنقع في دائرة الأحكام المسبقة، ونسقط آليات جامدة على واقع غريب عنها. ومن ثم تبتعد الذات وتغترب عن موضوعاتها. ربما ستكون ظاهرة الفقر هي أحد المكونات الرئيسية لبنية الجماعات، ويحيلنا الواقع العراقي كمصدر مهم إلى هذه الظاهرة الملوسة، إذ نجد أكثر المنتمين للجماعات هم الفئات الأكثر فقرًا؛ أحياء سكنية بائسة، ونسب تعليم متردية، والأعم الأغلب منهم ينحدر من أصول جنوبية، بل الأعم الأغلب من الضحايا والشهداء من هذه الأصول. بينما لا نعثر على مثل هذه التوجهات الجماعية في الأحياء السكنية الراقية. بكلمة واحدة: يسجّل قاطع الرصافة، شرق القناة بوجه خاص، طبقًا للخبرات الشخصية وليس اعتمادًا على قاعدة بيانات، أغلبية بالموت، والفقر، والانتماء الجماعي، بينما يبقى قاطع الكرخ بمأمن من هذه المخاطر عمومًا؛ ذلك أن نسب التعليم، والتمكين الاقتصادي لكلا الجنسين، وحرية المرأة النسبية تبقى، بحسب الواقع المعاش، هي الأكثر تقدمًا من غيرها في هذا القاطع. فهل من الصدفة ميول هذه الجموع البشرية في الأحياء الفقيرة للانتماء للجماعات بينما يندر هذا الحال في الأحياء الراقية؟
اقرأ/ي أيضًا: الجماعات وخصومها: العلاج بالتخوين!
يظهر مما تقدم أن عامل الفقر يشكّل أحد الدوافع الجوهرية لدخول الفرد كعضو في جماعة ما؛ فهي البيت، والملاذ الآمن، والتمكين المعنوي، بعد أن فقد التمكين المادي. فهل ثمّة أكثر غبطة من رجل معدم يرى نفسه عضوًا مهمًا في جماعة، وتوكل إليه في المستقبل وظائف مهمة لم يكن لينالها في حياته الفردية؟ ولهذا، بتعبير أيرك فروم "إنني جزء من أروع جماعة في العالم. أنا، الذي هو في الواقع دودة، أصير ماردًا من خلال انتمائي إلى الجماعة". فالانتماء هو عزاء وتعويض لهذه العدمية التي يخلفها الفقر، والدونية التي تجعل الفرد يبحث عن ملاذات آمنة. وفي الحقيقة، لا توجد حلول جاهزة لهذه الظاهرة المستفحلة إلا بتغيير الواقع الاقتصادي لهذا البلد، وعلى سبيل الخصوص واقع الجنوب البائس. لكن المشكلة الأكبر، هو أن الرموز، التي تحظى بعلاقة روحية عميقة بينها وبين أعضاء الجماعة، لا تسعى إلى تحسين واقع الفقر، ولا يوجد بناء لمؤسسات عصرية في أدبيات الجماعة ورموزها، اللهم إلا الشعارات المُعَدَّة للاستهلاك الإعلامي. لذلك نرى الجماعات تسعى سعيًا حثيثًا لتدمير الدولة والإجهاز على أي عمل مؤسسي يمكنه أن يؤثر على وجودها، أو يستفز نرجسيتها الجماعية.
على أية حال، ثمة حالة خطيرة، وهي حالة الحدود القصوى لهذه العضوية، من قبيل حالات التعصب الخطيرة التي تصل ذروتها لتغييب حياة الآخرين. وهنا تصل النرجسية الجماعية حدًا تغدو معه الحياة شبه مستحيلة لكل من يخالف توجهاتها، حتى لو كان على مستوى النقد العام، سيغدو عدوًا في نظرها. وبالطبع تتفاضل الجماعات فيما بينها (فهناك جماعات يتوقف سلوكها على التأثيم والتخوين والحرب الكلامية عمومًا) فثمّة جماعات مٌصّمّمَة للقتل، وهي من تختار طبيعة العدو الذي يهدد وجودها. حتى لو كان هذا العدو فردًا منخرطًا في عملية احتجاجية، تتوقف كل فعاليته الاحتجاجية على رفع لافتة أو التنديد بفساد النظام السياسي. لكنّه ما أن يغدو شخصية عامة فستكون حياته ملكًا لهذه الجماعة، حتى لو كان شابًا في مقتبل العمر، ينبغي أن يموت حالًا. القاتل عاجز عن الإبداع، عاجز عن الحب، كاره للحياة، فـ" كيف إذن يمكن أن يحل الإنسان مشكلة تجاوز نفسه، إذا لم يكن قادرًا على أن يبدع، وإذا لم يستطع أن يحب؟ توجد تلبية أخرى لهذه الحالة إلى التجاوز: إذا لم أستطع أن أبدع الحياة، فأنا أستطيع أن أدمرها. وتدميري للحياة يجعلني أتجاوزها كذلك" (أيريك فروم، المجتمع السوي).
هذا المستوى من الجماعات يشكّل ذروة التعصب الجماعي، ذلك أن التعويض الذي يسعى إليه لا يتوقف على ترميم وجوده الفردي المُحطم عبر الانتماء إلى وجود أوسع فحسب، بل سيسخّر كل إمكانياته السادية بخدمة الجماعة. ربما لا يوجد خيط فاصل بين الجماعات؛ ففي أي لحظة يتحول الكثير من الأعضاء إلى قوة تدميرية. خصوصًا إذا وصل الأمر للتطاول على الرمز؛ فالرمز العشائري، والرمز السياسي، والرمز المذهبي، يشكلون ذروة التعلق العاطفي في ذهنية الأعضاء، ولا يمكن قبول أي تسوية، فأنت خصمي، وربما تموت في لحظة، من خلال "دكَة عشائرية"، أو تصفية سياسية، أو طقس عقائدي مجنون يجري فيه تكفيرك ونبذك. ويمكن العثور على الجذر المشترك بين الجماعات في الخط الأيديولوجي، ومفاده: كلنا على حق، ويتوفر لدينا لكل سؤال جواب، أو على الأقل تبقى الكثير من الأشياء مسكوت عنها، فما يجمعنا ويرمم وجودنا هو الأمر الأكثر أهمية، ومن يهدد هذه الغبطة فسيكون خصمنا الأيديولوجي، ولن تكون حياته بمأمن على الإطلاق، ولدينا أشكال تعبيرية مختلفة تمنحنا الشرعية الكافية لتقسيم الحياة والموت بما نراه ضروريًا.
ما معنى العيش وسط كائنات كارهة للحياة، لا تفهم التضامن والمحبة الإنسانية إلا من حيث كونها مرتبطة بالرمز المذهبي أو العشائري أو السياسي؟
تكمن خطورة الجماعة، إذن، وبشكل عام، ليس لأنها جماعة تربطها بعض الأواصر العقائدية فحسب، بل في الذروة التي تبلغها هذه الجماعات لمستويات خطيرة حينما تبرر القتل، وتعطل عمل المؤسسات، أو توظفها، على الأقل، لخدماتها الشخصية، فتغدو الحياة والموت متساويين لكثير من الناس، إذ ما معنى العيش وسط جماعات تهدد وجودي في كل مرة، وتحدد لي ماذا أفكر وماذا أقول؟ ما معنى العيش وسط كائنات كارهة للحياة، لا تفهم التضامن والمحبة الإنسانية إلا من حيث كونها مرتبطة بالرمز المذهبي أو العشائري أو السياسي؟ وما عدا ذلك، فأنها ستتحول إلى ضغينة وكراهية وتدمير للحياة، وحقد على كل ما هو مختلف. بل تسعى حثيثة لإخراج المخالفين من الحظيرة البشرية، لأنهم لا يشكلون صورة طبق الأصل لنمط تفكيرهم. كل هذا يحدث لكي تبقى الجماعة في مأمن من أي مساءلة وعذاب للضمير، فالإنسان "حيوان مبرر"، ومستعد أن يتحول إلى قاتل وسفاح ما أن يفقد معنى الحياة، وإن أول دافع لتكون عضوًا في جماعة، هو فقدانك لهذا المعنى. إن فقدنا المعنى، ماذا يبقى؟ سيبقى الموت وسيبقى تجار الموت. ما المعنى المتبقي في الحياة حينما تكون حياتك مشروطة بقاتل مأجور؟
اقرأ/ي أيضًا: