شهدت بغداد، منذ أوج عظمتها في العصر العباسي، كل مراحل الصعود والانكسار، حتى أيامنا هذه. ومنذ صيرورتها عاصمة للدنيا في ذلك العهد ثم انهيارها التدريجي الذي بلغ ذروته بالغزو المغولي، ولاحقًا، بقيت عاصمة العراق الحالية مسرحًا للأحداث الكبرى. إنها كذلك الخبر الذي لا يغيب عن الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية ومواقع التواصل، بوسائل عصرنا، منتصرة كانت أم مهزومة.
بعد عشرين عامٍ فقط، كان الجيش العراقي الذي أسسته بريطانيا العظمى يحاصر جيشها العملاق في قاعدة الحبانية
نقول بغداد، لوزنها التاريخية، ومركزيتها، التي تقاس الدول وحدودها منها، بالإشعاع إلى الخارج كما النشأة المعتادة، في وقت لا نتحدث عن أصل العراق (الدولة) وحدوده، الموضوع الذي تجاوزته الأمم إلا نحن.
ولعل التاريخ الحافل بالأحداث، والثقافات المتداخلة، وطبيعة البشر القاطنين في المنطقة، وموقعها الجغرافي، والتدين ونوعه، والبيئة، صنعوا من حالة لا يمكن بسهولة تغييرها لتنسجم مع الآخرين كما أرادت الخارجية الأمريكية في "انزعاجها" الأخير.
لقد كان العراق الحالي مناطق مفككة في القرون الماضية التي تلت سقوط الدولة العباسية، ثم ولايات لا تجعمها جامعة حديثة كشأن بقية العرب في العهد العثماني. شعب ومنطقة بلا مؤسسات وعلوم وحداثة. ثم فجأة، وفي ظل الاستعمار البريطاني، بدأ النظام الملكي بإنشاء الدولة الجديدة.
وللتذكير، أُنشأت الدولة العراقية الحديثة على وقع "ثورة العشرين" ضد الإنجليز الذي جاءوا على أنقاض الحكم العثماني لتأسيس دولة يحلم بها العرب في طريقهم نحو الاستقلال عن العثمانيين.
وبلا مزيد من السرد التاريخي، تأسس الجيش العراقي في العام 1921 بفوج ثم أفواج لم تمثل معنى الجيش الكبير لكنها كانت نواته التي تحتل بها الدولة حتى يومنا بتأريخ السادس من كانون الثاني/يناير.
لقد قاومت فئات من الشعب في بادئ الأمر بعناوين مختلفة، إسلامية ووطنية وقومية، احتلالًا افترض أنه محرر لها من الاستبداد والمآسي والحصار
بعد عشرين عامٍ فقط، كان الجيش العراقي الذي أسسته بريطانيا العظمى يحاصر جيشها العملاق في قاعدة الحبانية، غداة الانقلاب الذي نفذه رشيد عالي الكـَيلاني، ومحاولات البريطانيين إعادة الحكم إلى الملك ورجاله.
كنت في العشرين من عمري حين قرأت هذه القصة لأول مرة. ولأني مهتم بشكل كبير في التوقيتات عند قراءة الأحداث التاريخية، فقد صُدمت من تصرف الجيش العراقي آنذاك وتساءلت: كيف لجيش فتي أن يحاصر مؤسسه (دولة عظمى) فقط بعد 20 عامًا؟ - خصوصًا وأن الجيش ما يزال ضعيفًا، والشاهدُ محاولات نوري باشا السعيد المستمرة لإقناع البريطانيين بدعمه.
سيكون هذا الجيش، ومن خلفه دولته في العاصمة بغداد، على موعد مع أحداث كبرى في السنوات اللاحقة. من النكسات والنكبات و(الانتصارات) مع الصهاينة في 1948 و1967 و1973 وموقفه التاريخي في دمشق، حتى الحرب مع الجار القوي إيران، ثم غزو الكويت.
مع الحصار الاقتصادي القاسي، والحكم المستبد في تسعينيات القرن الماضي، يضطر الباحث والخبير والسياسي كذلك، إلى التسليم بأن البلاد التي تتعرض لهذه الضربات المتتالية ستكون مستسلمة لأي محتلٍ. وبالفعل، دخل الاحتلال الأمريكي بقوته الجبّارة أرض الرافدين بسهولة.
لكن المفاجأة مرة أخرى كانت مع اندلاع حركات المقاومة في المناطق ذات الأغلبية السُنية والشيعية على حد سواء. لقد قاومت فئات من الشعب في بادئ الأمر بعناوين مختلفة، إسلامية ووطنية وقومية، احتلالًا افترض أنه محرر لها من الاستبداد والمآسي والحصار.
لقد خرج من رحم النظام الذي أسسته أمريكا صاروخ مضاد يشابه محاصرة فرقة الكـَيلاني لقاعدة تضم من أسسها
يذهب الكثير من الباحثين بالتحليل واستنادًا لشواهد واقعية وقصص وتسريبات وكتب، إلى تحميل الكيان الصهيوني جزءًا كبيرًا من مسؤولية حث الولايات المتحدة الأمريكية على غزو العراق.
وبالطبع، لا تخفى سعادة الكيان بتحييد العراق عن الصراع العربي – الإسرائيلي، وعزله عن محيطه العربي، بتأسيس نظام محاصصة طائفية تقسّم البلاد وتشلّها وتعيدها إلى العصور الغابرة.
وبالفعل، غرق العراق بصراعات داخلية، وانقسم الناسُ إلى كارهين لإيران، ومعادين للعرب، وبات العداء مع إسرائيل من الماضي، وربما ستكشف لنا الوثائق مستقبلًا حجم التغلغل الصهيوني في البلاد أثناء انهماك العراقيين في صراعاتهم في ما بينهم ومع جيرانهم.
وبغض النظر عن حديث التدخل الإسرائيلي في إنشاء النظام الجديد ودستوره، ونصائح الإسرائيليين للمتعاونين معهم في الداخل، والنفوذ في دائرة القرار الأمريكي المهيمن في العراق آنذاك، ومحاولات التطبيع العلنية الأخيرة، يبدو النظام العراقي الجديد مرسومًا بالقلم الإسرائيلي لناحية قدرته على تفكيك وإضعاف العراق/الدولة، شعبًا وقومية وقضايا وتاريخًا. لكن المفاجأة حدثت مرة أخرى.
في ذات الفترة أيضًا، بعد قرابة 20 عامًا على الاحتلال الأمريكي وإنشاء النظام الذي أُريد له أن يكون نموذجًا لـ"الشرق الأوسط الجديد" المتناحر في ما بينه، الخاضع لإسرائيل، يقر البرلمان العراقي قانونًا يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني!
كانت إسرائيل شطبت العراق، الذي كان دائمًا "دولة مواجهة"، من قائمة "الدول العدوة" في عام 2019، ووقَّعت مرسومًا يُجيز التبادل التجاري مع بغداد. ثم أُقيم في إقليم كردستان مؤتمرًا يدعو للتطبيع مع إسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر 2021، رحّب به وزير الخارجية الأمريكي ضمنًا وأبدى دعم بلاده لاتفاقات إبراهام.
وبتجاوز بعض الثغرات والصياغات والاعتراضات على القانون، يمكن عدّه - مع الاعتذار عن المقارنة - انقلابًا شبيهًا بانقلاب الجيش على البريطانيين. لقد خرج من رحم النظام الذي أسسته أمريكا صاروخ مضاد يشابه محاصرة فرقة الكـَيلاني لقاعدة تضم من أسسها. لكنه ينتظر إصلاحًا ديمقراطيًا للخراب الأمريكي في التأسيس، ليكون انقلابًا مكتمل الأركان، بالمعنى الفارسي للكلمة.
سلوك وتاريخ وحاضر البلاد يشبه طقسها. المفاجأة، التناقضات، كسر وانكسار
لسنا بصدد الاحتفال بشوفينية وطنية، ليس زمانها ولا ثقافتها، ليست ذات فائدة على أية حال، كما أن الحدث ليس انتصارًا مؤزرًا على العدو التاريخي للعرب. فما يزال الاحتلال الإسرائيلي يقضم الأراضي الفلسطينية في وقت تتدافع فيه دول عربية للتطبيع دون مقابل معه. ناهيك عن الحال المعيشية لشعوبنا المنكوبة؛ لكننا نصف واقعًا ينبغي النظر إليه بظروفه للوصول إلى حقيقة ضرورية تكون قاعدة للتفكير في مستقبل بلاد بهذا القالب والتاريخ.
سلوك وتاريخ وحاضر البلاد يشبه طقسها. المفاجأة، التناقضات، كسر وانكسار. يمكنها تبديل أربعة فصول في يوم واحد، وقد خبرنا ذلك منذ الاحتلال البريطاني (أو أبو ناجي) حتى الاحتلال الأمريكي (أو العم سام).
سوف لا ينطبق عليها ما ينطبق على الآخرين رغم محاولات نمذجتهم بالأبراج العالية والأسواق الممتلئة والنشرات الضوئية.