نجحت الأحزاب الإسلامية -الشيعية منها والسنية- بشكل كبير أثناء وبعد قمع انتفاضة تشرين عام 2019، في عملية حَرفِ بوصلة بعض المعارضين لنظام المحاصصة المذهبية والحزبية، من حالة الصِدام المباشر مع رجالاتها وكوادرها المعروفة، إلى حالة الصِدام مع بعض رفاقهم القدامى الّذين تشاركوا وإيّاهم تجارب الاحتجاجات الشعبية، وصولاً لمغامرة العمل السياسي الناشئ. وقد تم ذلك من خلال كسبهم لدكاكينها الاقتصادية، عن طريق وكلائها من رجال الأعمال الجدد، بما يتناسب ورغباتهم المادية والفكرية الزائفة.
مسألة مواجهة أحزاب وتجمعات الظِّل، ومحاولة كشف شعاراتها الانتهازية لا تقل أهمية عن مواجهة قوى السلطة التقليدية
ولم تكن غاية هذه التنظيمات الفئوية، وصمّام أمانها الكهنوتيّ منذ 2003 حتّى الآن، سوى تدمير ما تبقى من رزانة وسيادة ومؤسسات الدولة العراقية، والقضاء على فرص العراق في أن يكون في يومٍ من الأيام بمصاف الدول الصناعية والزراعية المتقدمة. لأنهم يعرفون جيدًا بأن شخصياتهم وأطباعهم التي هم عليها الآن لن تؤهلهم لشغل مراكز عليا وحساسة، إذا ما تم بناء البلاد ومؤسساتها وفق رؤى واقعية خالية من التخبط والزبائنية والفوضوية الفاضحة. ولأجل بقاء الأحوال على ما هي عليه، قامت هذه القوى والتنظيمات، بشراء وتقريب الكثير ممن كانوا يرفعون راية التغيير الديمقراطي في وجهها، وزجهم في مستنقعاتها الموبوءة، ومضايقة النُّخب الوطنية المنظمة وشيطنة مواقفها.
كان المال السياسي الفاسد، والمنازل الضخمة، والسيارات الفارهة، والمقرات التي تقع في أرقى مناطق بغداد، من أحقر الأسلحة التي تم استخدامها في عمليات الكسب الغادر هذا. فقد قام الأُخطبوط الفارسيّ بخنق الكثير من الأسماك التي تدعي العلمانية والليبرالية زورًا، بأموال الشعب العراقي المسلوبة. ويا ويلنا مما سيفعله أطفال السياسة الجدد بوطننا وشعبنا وقضايانا العالقة، مع غياب الرادع الحقيقي الصارم بوجه هذه المغالطات الكارثية. يقول البعض منهم: سنمضي، ولا نعرف تحديدًا هل سيمضون بنا وبالعراق إلى الهاوية التي سبق وإن ساقنا إليها الإسلاميون، الذين قرر هؤلاء الأطفال أن يكونوا (ظلًا لهم)؟ أم سيمضون نحو الثراء المنشود كما جرت العادة مع معظم أصحاب الأنفس الارتزاقية الضعيفة.
ولذلك يجب اﻷخذ في الحسبان، بأنّ مسألة مواجهة أحزاب وتجمعات الظِّل، ومحاولة كشف شعاراتها الانتهازيّة برداء الوطنية، لا تقل أهمية عن مواجهة قوى السلطة التي صنعتها بشكل مباشر للعودة بالشعب لما قبل الكارثة. خصوصًا بعد افتضاح خطط القوى الخاسرة الحاكمة، ورغبتها الصريحة لخلق معارضة ودودة مسيطر عليها، تأتمر بأوامر زعماء النظام الأوائل، من خلال تسويقها على أنها الضد المثالي بالنسبة للحالمين بالتغيير المزعوم، فيضعف تأثير الأصوات المعارضة الحقيقية من جهة، ويرتفع صوت "معارضة الظِّل" بوصفها "معارضة بما يُرضي النظام الحاكم وملاكه الحارس" من جهة ثانية.
بناءً على ذلك، في بيئة سياسية مشحونة مُشوَّهة، وغير واضحة المعالم والأهداف مثل ما هو موجود حاليًا في العراق، تكون مهمة التأسيس لمعارضة سياسية شاملة ليست بالأمر الهيِّن لمَن يُقرِّر الخوض بهذا التّحدي غير القابل للتراجع ولو خطوة واحدة إلى الوراء.
مشكلة بعض المُعارضين في العراق -وأخصُّ بالذكر فئة الشباب منهم- هي افتقارهم لضرورة الصبر، وتحمل مرارة بطء الوصول السياسي السليم، من دون الارتماء بين أحضان الأحزاب الإسلامية الحاكمة وميليشياتها التي ألحقت الضرر الكبير بمؤسسات الدولة العراقية تارةً، وبالمجتمع العراقي واستقراره تارةً أُخرى. ممّا يؤدي لوقوعهم في مصيدة التناقض، لأنهم سيُجبرون على تبني مواقف جديدة تتقاطع جذريًا مع متبنياتهم القديمة، التي اتخذوا منها معبرًا لمصالحهم الضيقة. وهذا ما حدث فعلًا على سبيل المثال، في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أقيمت في تشرين الأول/أكتوبر 2021، وما أسفرت عنها من نتائج ومواقف فضحت الكثير من الأصوات النشاز، ممّن كانوا يدّعون قربهم من تشرين ورجالها الأبطال. وما يدعو للخيبة أكثر هو دعمهم النيابي الصريح لمَن قتل وهجّر وأفسد في الأرض، أمّا قضية المعارضة في حساباتهم فهي مجرّد ضياع للوقت، وما هو أوجب من ذلك بالنسبة لهم هو مسح كتف المجرم، ونسيان الضحيّة بحجة الواقع ومعطياته، وضرورة حفظ السِّلم ودعم الحوار والتغيير الناعم وترويض الوحش القناص باللطف الجبان وإلى آخره من هذه الحجج.
على المُعارض الصادق أن يتعلم العزلة عن السُّلطة المتهمة بالفساد والقتل، ودكاكينها الاقتصادية الطامحة لكسبه بأيّ طريقة كانت. ويجعل من الكرامة طريقًا لعمله السِّياسيّ، لأنّه لا يُشترى ولا يُباع وإلّا سيكون مُفرغًا من محتواه، وبذلك يكون قد ربح الأموال وخسر الكرامة وشرف الحياة النظيفة. لأن ألعاب الخِفَّة السِّياسيَّة الوهميَّة، قد تنطلي على الجماهير لبعض الوقت، لكنها لن تبقى كذلك عندما يَتَسلَّل بعض الطامحين لرؤية الكواليس النفسيَّة لتلك الألعاب.