يعاني النظام السياسي في العراق منذ 2003 إلى اليوم من مشاكل وانحدارات كثيره ومتكرّرة، ما استوجب فعلًا وجود معارضة سياسية حقيقية داخل قبة البرلمان لتكون الانطلاقة الحقيقية في تمثيل مطالب الشعب وتصحيح المسار.. معارضة لا بدّ أن تتصف بالعقلانية والسلوك السياسي القادر على المواجهة والتريث والمرونة، إذ تطلب الأمر معارضة تمتلك من الوعي السياسي ما يؤهلها لطرح بدائل وحلول سياسية في كل قطاعات الدولة لأجل النهوض بها أو بهدف تغيير الوجوه التي لم تقدّم للعراق خيرًا واستنزفت ثرواته، وقد تتشكل هذا المعارضة بفعل وسائل وآليات عديدة، ومنها التي تصدر من الشارع الشعبي المحتج بدفع من قوى الاحتجاج والتغيير الذين يتصدون المشهد.
تشرين كانت بذرة أمل خضراء في نفوس العراقيين لكن سرعان ما أحرقتها السلطة
وبرزت ملامح حركات الاحتجاج وقوى التغيير في النظام السياسي العراقي الذي جاء بفعل أسباب يعرفها جميع العراقيين بعد عام 2011، وبدأت تنظم نفسها اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا من خلال النقابات والاتحادات والجمعيات والمنظمات المدنية التي تريد أن تمارس دورها وحقها الدستوري في المشاركة السياسية والمدنية للشباب، وطرح حلول وبدائل تحاول أن تصحح من عبء أخطاء النظام وتطالب بتصورات تحفظ لها وطنها وحقوقها، وتكللت بعدة مظاهرات مختلفة في سنوات متفاوتة.
أعتقد أن عملية بروز قوى الاحتجاج والنفس الثوري وبوادر الإصلاح والتغيير التي أراد أثباتها هذا القوى بعد عام 2003، كانت تعاني كثيرًا من جملة معوقات تمنعها من ممارسة دورها، وأهم هذه الأسباب هو عدم اكتراث السلطة بهذا القوى وعدم سماع أصواتهم المنددة بالتغيير
. نأت هذا السلطة نفسها عن الشباب وأصواتهم وغيبت دورهم، وأشغلتهم في الصراع مع الحياة وكيفية كسب لقمة العيش وفرص العمل، وحاولت خلق هويات لتقسمهم عرقيًا ودينيًا واجتماعيًا، ونجحت في ذلك وأصبح جل ما يفكر به الشاب العراقي هو وظيفة أو فرصة عمل ملائمه له، وأضف إليها بأن هذا السلطة لا تؤمن بمبدأ التداول السلمي للسلطة، بل تشبعت وانغمست كليًا مع دول الجوار للحفاظ على مصالحها ولديمومة تمسكها بالنفوذ.وإذا حاولنا أن ننطلق من المفهوم الذي يقول
إن السلطة نتاج الشعب.. وما عانى الشعب العراقي من سلطة دكتاتورية دامت أكثر من 30 سنة من التعذيب القسري والإقصاء والخضوع للسلطة بدون أي فرصة لإبداء الآراء أو المعارضة، سنتوصل بديهيًا إلى فهم حقيقي للواقع السياسي لدى الفرد العراقي ودوره في الوعي السياسي الغائب، مما زاد من غليان الشارع العراقي بعد كل الفشل المتراكم الذي خلفه النظام السياسي. اكتملت حدة التصعيد والروح الثورية ورصفت صفوف قوى الاحتجاج والتغيير في تشرين عام 2019، مما أظهر لنا هذا الاحتجاج أشياء لم يسبق وجودها في تاريخ العراق السياسي المعارض. تشرين كانت بذرة أمل خضراء في نفوس العراقيين، لكن سرعان ما أحرقتها السلطة ودخلت في مواجهة مباشرة معها بوابلٍ من رصاص وتغيب واعتقال واختطاف وقتل.هدوء بعد عاصفة
نظمت قوى الاحتجاج والتغيير بكل ما تحمل من ناشطين وأكاديميين ومؤثرين في الشارع العراقي أنفسهم سياسيًا ليكونوا بديلاً حقيقيًا عن أحزاب السلطة، وليكون هناك تحول ديمقراطي جزئي في العملية السياسية بعد سنوات من غياب هذا الدور، وتمسك الطرف الآخر بالساحات وقاطعوا الانتخابات المراد بها رسالة إيصالها بأننا لا نؤمن بشرعية هذا النظام ولا بأحقيته ومشروعنا هو تغييره برمته عبر نفس ثوري يطيح بهذا النظام وبشخوصه، وبعد 3 سنوات من احتجاجات تشرين وبكل ما أفرزته من وجوه جديدة في العملية السياسية وتأييد أكثر في الشارع، تعطلت العملية السياسية في العراق منذ انتخابات تشرين إلى هذا اليوم بفعل الصراع الدائر بين طرفيين وهو الإطار التنسيقي ـ التيار الصدري.
الذين حاولوا بشتى الطرق إشراك شباب الاحتجاج والقوى السياسية المعارضة في صراعهم وبفعل المتغيرات السريعة في المشهد السياسي العراقي الذي أدى إلى صدام مسلح، مما يظهر مدى تأزم المشهد ومدى ضبابية الرؤية لدى الطرفين المتمسك كلاً بمصالحه، وقد عانت في الطرف الآخر قوى الاحتجاج من التشتت والاختلاف في الأهداف، وتسلق البعض على الآخر وإقصاء البعض وعدم طرح رؤية حقيقية وعدم الاتفاق إلى غاية معينة بكل منطلقاتهم، أي على صعيد الحركات السياسية الناشئة التي انبثقت من خلال احتجاجات تشرين، أو على صعيد الساحات والعمل الميداني، حيث عانت هذا المحركات بالمجمل من ضياع روح التكاتف فيما بينها مما أدى إلى الانقسام بالصف الواحد.
وهنا نحن بصدد تشخيص بعض الحالات التي يعاني منها الحراك المدني ككل وبشقيها السياسي والاجتماعي، وبهدف الإسراع في تلافي الأخطاء والتعلم منها، ولكونها تجربة فتية وناشئة، فليس من العيب التعلم من الأخطاء وتصحيحها وتوحيد الصفوف، ولعل من أهم الأخطاء التي وقعت بها هذا القوى هي:
- فقدان الثقة بين المتصدين للمشهد السياسي والجمهور الاحتجاجي بسبب ما صُدر من بعض ما يسمى بـ"الواجهات".
- غياب الرؤية الحقيقية أو الاستراتجية التي من المفترض العمل بها لقيادة المشهد القادم والذي يضمن على الأقل عدم الانقسام.
- عدم توحيد الجهود والمطالب، فما يرفع من شعارات وهتافات لا ترتقي بأن تكون مطلبًا، فلا بد من مطالب واضحة سليمة تكون قادرة على تحقيق نفسها.
- غياب الوعي السياسي والدهاء في العمل السياسي لكثير من المتصدين في هذا القوى، فترى من لا يمتلك خيارات أخرى مستعينًا بخطاب الثورة وفقدان التوازن في سلوكه وعمله.
- عدم الاتفاق بين الأحزاب السياسية الناشئة وقد ظهرت بوادر الاختلاف والنزاع بينهم بعد مسيرة قليلة جدًا.
- عدم الصبر من قبل الجماهير، حيث تطالب جماهير الاحتجاج بأشياء لا يمكن حدوثها، وليس من صلاحية المتصدين والممثلين عنهم فعلها في وقت قياسي وقصير، وفي وقت لم يُتاح للجميع ممارسة دوره، وهذا ما يدعونا بالقول إن الكثير من الجماهير تفتفر إلى الوعي السياسي.
وفي الوقت الذي يمر فيه العراق بمنعطف خطير في المشهد السياسي، يتوجب على قوى التغيير والحراك المدني أن يلملم شتات نفسه ويحافظ على توازنه، بما يمتلك من وعي يؤهله لقيادة المرحلة المقبله لطرح بدائل وحلول جديدة، فالواجب اليوم هو امتلاك رؤية حقيقية واستراتجية هادفة للتصدي للمشهد، وأن تكون هناك قراءة دقيقة للواقع، وعدم الإسراع في اتخاذ القرارات أو المواقف التي تشخصن الآخرين، وأن تكون هناك مطالب وخطابات واقعية تمتلك من الوعي ما يؤهلها لتطبيقها والابتعاد عن الاكتفاء بالشعارات والهتافات والمنشورات الرنانة، وأخيرًا وليس آخرًا؛ لا بدّ من امتلاك شرف الخصومة والحوار السليم والنقاش العقلاني الذي يؤهل لذوبان الخلافات وتقبلها بعيدًا الشتم وإقصاء الآخر.