من ضمن الخطايا التي نقع فيها ونحن في طريقنا نحو التفوق الموهوم، هو تلك الصدمة غير المبررة تجاه الجماهير الدينية وهي تذوب في قادتها الدينيين والحزبيين. هل خلت ثقافتنا يومًا من هذا الجموح؟ أليس تاريخنا السياسي هو تاريخ التصفيق والتغني والتطبيل للمستبد؟ هل كنّا مجتمعًا ليبراليًا دون أن نعلم؟! ألم تكن الجماهير طوال تاريخنا السياسي تتغنى باسم الجلاد بوصفه "الأب" و"الحامي"، سواء كان هذا الأب يساري أم قومي؟ هل خلا تاريخنا السياسي الأسود يومًا سطوة الميليشيات؟!
المجتمع لا يأخذ زمام المبادرة ما لم تتوفر له نخبة صادقة وحقيقية ترتفع عن صغائر الأمور
لم يكن الأمر سوى تبدّل بالأدوار واختلاف بالأشكال التعبيرية؛ فذاك يسلخ الجلود ويعلق على المشانق ويسحل في الشوارع وينقلب على نظام الحكم باسم الشعب والثورة، وهذا يقتل ويصفي ويغتال باسم الدين والمذهب ثم يبكي على استشهاد الإمام الحسين ويتغنّى بزهد الإمام علي بن أبي طالب. في حين لم يحظ الأنبياء والرسل والأئمة بمثل هذه السلطة التي يتمتع بها هؤلاء.
لماذا كل هذا الذهول والارتياب؟ أنا شخصيًا أرفض كل أشكال الهيمنة والقسر ومصادرة الحريات، ولدي نفور غريزي تجاه الحماس الجماهيري، ولم أؤمن يومًا بذلك المد الشعبوي، الذي غرقت فيه سفن الكثير من المثقفين، وتغنّت فيه الكثير من القصائد العصماء. ولا أجد نفسي بين هذه الصفوف، لكنّي لا أشعر بالصدمة إزاء كل ما يحدث؛ فحاضرنا هو نسخة طبق الأصل من ماضينا. بل أشعر بالصدمة والذهول أما هذا التكرار الرتيب والمملّ.لذلك قدر الإمكان أحاول أن أعصم نفسي من هذا الذهول المفتعل كما لو أن العراق كان ضاحية من ضواحي فرنسا.
لا أبرر لهذا الواقع التعيس الذي أحالته الأحزاب الدينية إلى كابوس مطبق، لكنّي لست متفاجئًا على الإطلاق ممّا يحدث وما يترتب عليه من نتائج. إن حزني وحيرتي من هنا وبالذات: لماذا لا يتمثّل هذا الحزن والقلق والرفض ويترجم نفسه إلى تجمع نخبوي يصحح المسار ولو بعد حين؟ ألا تتلمسون ثمة مسرحية كوميدية نعرضها على أنفسنا؟ لكنها مسرحية تافهة جدًا لدرجة أنها تجتر الأحداث وتكررها بطريقة فجّة ومنفّرة، كما لو أننا نحتاج إلى من يذكرنا بتاريخنا المتشابه، أو أننا سنصفق لهذه الصيغ الخطابية التي لا تقول شيئًا سوى أنها تحاول أن تحجز لها مقعدًا مميزًا لدى جمهورها الافتراضي، وهذا أقصى ما تتمناه.
ألم تثبت الأحداث أننا لا نقل فوضوية وفسادًا عن هؤلاء؛ ففساد الروح والأخلاق لا يقل خطورة عن باقي أشكال الفساد. فساد الثقة المعدومة، وفساد تخوين أحدنا للآخر، وفساد الارتجال والتسرع ونفاذ الصبر. ما هي المصيبة التي تعوّق واقع "القوة المعارضة"؟ ألا يوجد لدينا، إعلاميون، ومثقفون، وأكاديميون، وناشطون، يسجلون رفضهم اليومي ومعارضتهم المستمرة للزمرة السياسية الحاكمة في مدوناتهم الشخصية في العالم الافتراضي، وينتشون بعبارات المديح والثناء التي ينثرها عليهم جمهورهم؟! إذا كان عذر الأكاديميين يتمحور حول اكتفائهم بإنتاج الفكر، فلماذا فشل غيرهم في تنظيم أنفسهم؟
أعتقد أن هذا السؤال هو ما ينبغي أن ننشغل بتفاصيله، لا أن نتوهم تميّزًا كاذبًا ونسرد أحداثًا لا يوجد فيها شيء جديد. نظام سياسي فاسد، وإقطاعيات سياسية فاسدة، وميلشيات مسلحة، ودولة منهارة، هل من جديد في تاريخنا السياسي؟ ربما يكمن الجديد في زيادة رقعة الفساد وكثرة "الآباء"، وتبدل الجماهير: من جماهير يسارية وقومية إلى جماهير دينية.
علينا نحن الذين نصنّف أنفسنا خارج "القطيع، ويحلو لنا التغني بتفرّدنا المزعوم، أن ندرب أنفسنا على هذه الأسئلة حتى ولو في الخفاء. على الأقل لكي نعرف حجومنا الحقيقية، وقدرنا الحقيقي، لا أن نلقي باللوم على المجتمع.المجتمع لا يأخذ زمام المبادرة مالم تتوفر له نخبة صادقة وحقيقية ترتفع عن صغائر الأمور وتتجاوز خصوماتها الشخصية ذات الطابع الصبياني.
مجتمع مثل المجتمع العراقي يحتاج إلى قوة صبر ومطاولة استثنائيتان لدرجة أننا قد ننتظر جيلًا كاملًا لكي ترجع الناس إلى رشدها. مجتمع تربى بحضن الاستبداد لعقود طويلة، لا يحفزه العالم الافتراضي، ولا تحفزه الخطابات الطائشة، وإنما يحفزه النموذج العملي. وأنا أعترف أن هذا النموذج لا يأتي بين ليلة وضحاها بالتأكيد، لصعوبة مزاج العراقيين وتقلباتهم التي يتحكم فيها تاريخ طويل من العنف السياسي.علينا أن نعثر على العلاج الشافي لهذا العجز المطبق الذي نعاني منه. إذ كلما انتصرنا وأخذنا الزهو لما نقرأه من تجارب الأمم المتقدمة سرعان ما يتحطم أمام صخرة الواقع العراقي الصلبة. ذلك أن الواقع شيء والموضة الفرنسية شيء آخر!
مجتمع تربى بحضن الاستبداد لعقود طويلة لا يحفزه العالم الافتراضي ولا تحفزه الخطابات الطائشة وإنما يحفزه النموذج العملي
هذا العجز ينبغي أن يفتح لنا آفاقًا جديدة لفهم واقعنا مثلما هو لا كما تريد رغباتنا المتوقدة. وعند ذاك ربما نعثر على الخطوة الواقعية التي تدفعنا نحو تنظيم سياسي عقلاني يجمع كل هذا الشتات المتناثر في معتقلات العالم الافتراضي، ويغادرنا هذا "البطل الثوري" المُتخَيَّل إلى غير رجعة. هذا البطل، حسب تعبير فوزي كريم، الذي "لا يمت لإنسان الحياة اليومية بصلة. أنه بطل ينتسب لشريحة أو نخبة لا وجود لها في الحقيقة الأرضية". أنه بطل الحداثة الكاذبة الذي ابتلعه العالم الرقمي.