مع العديد من الأصدقاء والزملاء، كنا لا نخفي انزعاجنا حين يتمّ لوم المجتمع وتحميله أسباب التخلّف والانحطاط، وكنا نعتقد أن هذا القول خارج من ثقافة استبدادية تريد إقناع الناس بأنّ هذا قدرهم، لا الديمقراطية ولا المؤسسات تصلح لهم، فضلًا عن أنه تبرير للنخب السياسية التي فشلت في توفير أدنى شروط الحياة الآدمية الكريمة، لكن آثار هذه الثقافة لا زالت مسيطرة حتى على من يعتقدون أنهم ضمن جماعات ثقافية تعتقد أن الدهر ظلمها حين وضعها بالعراق، البلد الذي لا يليق بدمائهم الزرقاء.
وحدها الدولة من تجعل الإنسان يحترم نفسه ويضع أهمية لحياته
ومنذ بداية الأزمة الأخيرة واشتباكات الخضراء، رأيت نقاشًا عراقيًا في "من يستحق الموت؟". تخيل! أنت في بلاد لم تغلق سجلات الاغتيال والموت الجماعي فيها، لكن هذا الأمر يشير بشكل مؤلم إلى حجم الأمراض التي صنعتها الأنظمة السياسية في العراق. لم يعد الدم مثيرًا، لم يعد محترمًا هنا، هو يفتح نقاشات هامشية لا تشتبك مع أصل الكارثة، وحتى من يموت، لا تثيره فكرة أنه سيكون رقمًا منسيًا في ليل البلاد البهيم. ومن يفترض أنه يتحمل مسؤولية رفع التضليل عن الناس، صار غارقًا أيضًا بأمراضهم السياسية وتحولاتها بين الاستبداد والاحتلال وحكم الطوائف.
هل من الصحيح ترديد بديهية تقول "لا أحد يستحق الموت في العراق"؟! هذه فكرة قد تبدو غريبة لقارئ غير عراقي، لكنها يمكن أن تثير نقاشًا داخل بلاد كتب تاريخها السياسي الدم وحده. يريد بعض الناس أن يضع أفراد الجماعات الدينية أهمية لحياتهم، وبالنتيجة، لا يكونوا حطبًا في محارق يصنعها زعماء ويجني ثمارها زعماء، ولا تغيير مرتجى أو منظور. هذا مطلب نبيل نعم، لكنه يبدو بعيدًا عن النظر لجذور الانحطاط في العراق وما صُنع بهذا المجتمع بشكل عام.
لا أحد يجعل الإنسان يحترم نفسه ويقدر حياته ويريد الحفاظ عليها، غير نظامه السياسي ودولته التي يمكن الحديث فيها عن "فرد" وليس جماعة. يقوم ما يسمى بـ"النظام الديمقراطي" في العراق أصلًا على الجماعة وليس الفرد، الجماعة الطائفية التي يدخل من يمثلها إلى البرلمان للحفاظ على حصونها وتغييب أزمة المنجز بإعلاء صوت المكوّن وحمايته من العدو المتخيل. هذه بديهية أيضًا، ولهذا من الصعب مطالبة أبناء الجماعات بأن يكونوا أفرادًا في بلاد دون دولة ولا يمكن الحديث فيها عن ثقافة سياسية وحزبية راسخة. استسهال الموت ـ مع أوجاعه العميقة ـ يفترض أن يفتح النظر على أزمة الدولة في العراق، وكيف أن غيابها لا يؤدي إلى إيقاف استمرار شلالات الدم وأجواء الخراب، وإن حذرنا من "الفوضى" و "تهديد السلم المجتمعي".
انتشر مقطع مصور لامرأة عراقية وهي تطلق النار على المنطقة الخضراء في الحدث الأخير، هل هذا يستدعي التنمر والسخرية؟ كان بالنسبة لي يمثل أبرز تجليات ما فعلته الأنظمة السياسية المتعاقبة في البلاد بإعلاء صوت المعركة والسلاح، وبالنتيجة؛ بدل أن تعيش هذه المرأة حياتها المستقرة والمنتجة في الفضاء العام، تتحول إلى شخص يحمل بندقية ويضرب، ومن ثمّ تخلّف ضحايا، يخلّفون ضحايا، لا صوت يعلو لديهم على صوت السلاح في غياب النموذج الفعلي لأن يكونوا ضمن سياق سياسي نظيف.
اشتباكات الخضراء وما حدث فيها، تقدم دروسًا كبيرة، ومهمة، عن كيف ينظر الناس إلى الجماعات المهيمنة في العراق؟ لماذا لم تعد فكرة القتال مثيرة بالنسبة للعراقيين؟ لماذا لم يعد التخويف من الفوضى مجديًا؟ وكيف كان ينظر للناس للدم الذي ينزف على أنه حدث طبيعي، مثله مثل أي أزمة سياسية في العراق. أيضًا يؤشر الحدث بشكل واضح إلى أن الفرصة إذا سنحت، سيتعرض ما يسمى بـ"قادة النظام السياسي" إلى السحل والتعليق على الأعمدة والتشفي، بسبب ما أوصلوا الناس إليه، وهذه الدروس لا أعتقد أنها ستكون منظورة بين أروقة "الزعامات" وقادة الميليشيات، لأنهم سيعودون ويكون نقاشهم الأصيل والأساسي: "حكم المكوّن"، الذي يجب أن لا تزعزعه قوافل الشباب وهم ذاهبون إلى المنايا، والبلاد التي ستكون كلها مقبرة!
بالنسبة لي؛ أشعر بالانكسار منذ أيام على ضحايا الخضراء، وحين رأيت صور القبور كانت تكثيفًا لكل الضحايا الذين ابتلعهم دهر البلاد حقبة إثر حقبة. هؤلاء يستحقون الحياة مثل أي عراقي ينتظر دولة محترمة، لا يحتاج فيها أن يحمل السلاح أو أن ينتمي إلى "ميليشيا" أو قبيلة ليشعر بمعناه في بلاد لا معنى فيها إلى أي شيء.