استعدت، مع وفاة قامتين إبداعيتين هما الفنان الكبير ياس خضر والشاعر كريم العراقي، مشاعري المتناقضة يوم أعلن عن وفاة الملحّن الكبير طالب القره غولي، في مايو 2013.
في عقد التسعينيات صارت الأغنيات تسمّى "وطنية" وهي في أغلبها تمجيد ومديح لرأس النظام الحاكم ليس إلا
جوهر التناقض أن الكثير من المحتفين بهؤلاء الفنانين في حياتهم، وحزنوا لرحليهم، يحتفظون بذاكرة سبعينية عنهم، ويعرفون صورهم وفنّهم قبل عقد الثمانينيات، أما أنا، ومن هو من جيلي، فقد تعرّفنا على أغلب الفنانين العراقيين وهم يغنون للحرب ولنظام صدام حسين ويظهرون يوميًا على شاشة التلفزيون الرسمي ببزّات عسكرية. حتى إن صورتي الأولى عن الفنان قحطان العطّار من خلال أغنيته "عراقيين وكلنا نحمي هاي الكاع"، التي بثّت من على شاشة التلفزيون العراقي في الشهر الأول من الحرب العراقية الإيرانية في 1980. وكانت هذه ربما أغنيته "الحربية" الوحيدة قبل أن يفرّ خارج العراق.
واحد من أجمل الأصوات العراقية، وربما أجملها، رياض أحمد، تعرّفت عليه من أغنياته العسكرية، أما ياس خضر فقد كان من بين الفنانين الأغزر إنتاجًا للأغاني الحربية وأغاني تمجيد القيادة العراقية. كذلك فإن صورتي عن طالب القره غولي أراه واقفًا على المسرح يحرّك يديه يمينًا وشمالًا، وكأنه يقود أوركسترا، بينما ثلاثة أرباع المطربين والفنانين في الوسط الفني العراقي يقفون أمامه وهم يغنون أغنية "احنه مشينا للحرب". كان المطربون العرب ثم جيل المطربين الشباب الذين ظهروا في منتصف الثمانينيات هم الذين مثّلوا عندي صورة المطرب، بحيادية أيديولوجية أو سياسية، ثم سرعان ما انجذب النجوم من المطربين الشباب إلى ماكنة الحرب، وبعد توقفها في عقد التسعينيات، صارت الأغنيات تسمّى "وطنية"، وهي في أغلبها تمجيد ومديح لرأس النظام الحاكم ليس إلا.
ظلّ هذا الحاجز النفسي في داخلي لفترة طويلة تجاه كلّ تراث السبعينيات الغنائي، ثم من منتصف التسعينيات وصعودًا إلى ما بعد 2003، أعدت اكتشاف هذا التراث، ثم صارت لدي إمكانية لتملّس مواطن العبقرية والإبداع الكبير في الأصوات والألحان، وأن طالب القره غولي مثلاً، حتى مع أغانيه الحربية، كان مبدعًا كبيرًا.
الشيء الأهم هو تلمّس طريق الغفران، وكيف أنه من الأخلاقي أن لا نرفع سيفًا مسلطًا على رؤوس النخب الفنية والثقافية وكأننا نمتلك الحقيقة المطلقة، التي تتيح لنا تحديد من يستحق الذهاب إلى الجنة أو الجحيم. وهذا ما حدث بالفعل في السنوات الأولى ما بعد 2003 بحملة قادها في البداية الشيوعيون السابقون، العائدون إلى أرض الوطن، أو المنبثقون من الهامش الاجتماعي بعد صمت طويل لأكثر من ثلاثة عقود. وبموازاة ذلك تراكم جهد واضح لإعادة "تبيئة" للفنانين الذين أقصاهم نظام صدام، وتم الاحتفاء بالأحياء منهم، وإعادة التذكير بأغانيهم التي حذفت من المكتبة الموسيقية في الإذاعة والتلفزيون العراقيين. وهذا جهد مهم ولا شكّ.
أما الذين وصفوا بأنهم من مطربي النظام السابق، فقد تحكّمت محددات الوضع الجديد في تقرير مصيرهم، فبعضهم لم يجد أمامه سوى الفرار خارج العراق ذاهبًا إلى المنافي أو دول الجوار العربي، والبعض الآخر أعلن التوبة عن الغناء، أو اتجه للمدائح الدينية وقراءة المقاتل الحسينية كما حصل مع الفنان فرج وهاب، وآخرين أعيد احتضانهم لأنهم يملكون لقبًا هاشميًا، أو لأنهم أقارب لقيادات سياسية واجتماعية صار لها وزنها في الوضع الجديد.
شيئًا فشيئًا تغلّبت رؤية الغفران على الإقصاء في الأعم الأغلب من الحالات، مع شيء من الامتعاض لدى البعض حول تمييع الحدود الأخلاقية، والخشية من أن الغفران يعني محو الذاكرة، وهي ذاكرة فيها ضحايا ومجرمون، وأناس زيّنوا للمجرمين أعمالهم.
بالنسبة لي، فإن الغفران ينطلق من حقيقة ضآلة الكائن البشري ومحدوديته، وأنه قد يكون بطلاً أو مجرمًا بالمصادفات، من دون قرار منه. وأنه قد يكون حسن النوايا ولكنه يفشل في اتخاذ القرارات الصحيحة، لأن الصورة الأكبر غائبة عنه. إن هناك في الواقع عشرات الأسباب التي تجعل مطربًا ما يغنّي لنظام استبدادي، وليست كلّ هذه الأسباب مختزلة في أنه يؤيد سياسات هذا النظام.
الغفران ينطلق من حقيقة ضآلة الكائن البشري ومحدوديته وأنه قد يكون بطلاً أو مجرمًا بالمصادفات
ليس من الصحّي للذاكرة الجماعية نسيان ما جرى وما حدث، ولكن ليس من الصحّي أيضًا حذف هذه الذاكرة بردود فعل انفعالية، أو استجابة لدواعي أيديولوجية، خصوصًا حين تكون هذه الأيديولوجيا ضد الفن بأسره، وليست ضد الفن الذي أنتج في عهد النظام السابق فحسب.