بعد عشرين سنة ما زالت هناك خشية معقولة ومفهومة لدى شريحة في المجتمع العراقي من شبح البعث، ويمكن لي أن أؤكد أن جزءًا مهمًا من النخب الثقافية لديها خشية مماثلة، لدواعي حفظ الذاكرة وعدم نسيان الماضي، وهو ماضٍ يحتلّ البعث، كحزب وأفكار وقيادة سياسية ومغامرات عسكرية، مقطعًا كبيرًا منه.
المزاج الذي أنتج البعث يمكن له أن ينتج غيره إن لم تكن هناك مصدّات قوية
إن نسيان "جرائم البعث" يحرمنا من إمكانية فهم الماضي، ومن ثمّ إمكانية فهم الحاضر ومتغيراته. ولكن هناك فرق بكلّ تأكيد بين تصنيم البعث في صورة نمطية مقفلة، يتم استهلاكها في ماكنات الخطابة السياسية عند التيارات المعارضة للبعث، والتي ورثت مواقعه في السلطة، وأن يكون البعث، بكلّ تاريخه المتداخل مع تاريخ العراق المعاصر، مادة للبحث والدرس والقراءة ومحاولة الفهم.
إن إنهماكي الشخصي بالبعث الذي ولدت في زمنه وعاصرت جزءًا من أدواره ثم سقوطه وزواله، جعله حاضرًا في أعمالي الإبداعية. كتبت عملين تلفزيونيين هما مسلسل "ضياع في حفر الباطن" [بث في العام 2012] ومسلسل "وادي السلام" [بث في العام 2015]، كما أن مراجعة زمن البعث كان حاضرًا في أغلب رواياتي. وما كان يهمّني، خارج تحويل البعث إلى صنم يُرجم، كيف أن هذا البعث رغم أنه أيديولوجيا جاءت من خارج العراق، هو نتاج الأرض العراقية، ونتاج المزاج العراقي. وأن هذا المزاج الذي أنتج البعث يمكن له أن ينتج غيره إن لم تكن هناك مصدّات قوية، وهذه المصدّات تأتي من تغيير المعطيات الاجتماعية وتغيير واقع الأفراد الذين يجدون في الأيديولوجيات الشمولية والشعبوية فضاءً للتعبير عن الذات.
إن انشغال النظام السياسي الحالي بصبّ المزيد من الزيت على صنم البعث وحمايته من آثار الزمن، يتعارض تمامًا مع الجهد العقلاني لتفتيت تراث البعث، والذي يستهدف الأرضية التي نبت فيها البعث، لا المظهر الخارجي له، وهي في واقع الحال أرضية تشترك غالبية الأحزاب الحاكمة اليوم مع البعث فيها. إن الأحزاب الحاكمة استولت على كلّ مواقع البعث السابقة، في السلطة وأجهزة الدولة، وهذا أمر طبيعي ومفروغ منه، ولكنها استولت أيضًا على "روح البعث"، وأعادت تمثيله، وفهم المجتمع سريعًا هذا التناظر والتطابق في العمق، فكان يصدر تعليقات ساخرة من وقت مبكّر، ومنها: قبل كانت رفيقي وهسّه مولاي!
صار المجتمع يفهم أن لقب "الحجّي" مثلاً، خرج من إطاره الدلالي السابق الذي يشير الى اثنين: الشخص الذي حجّ إلى بيت الله الحرام، والرجل الكبير بالعمر، حتى وإن لم يقم بالحجّ. صارت "الحجّي" مفردة تشير إلى قيادي أو زعيم ميليشيا أو عضو متنفّذ في حزب من أحزاب السلطة. ومثلما كان الرفاق البعثيون يتصرّفون وكأنهم فوق السلطة، فإن "الحجّاج" صاروا يقومون بالأدوار نفسها.
كانت هناك مادة قانونية تعاقب من سبّ أو تجاوز على رموز القيادة البعثية، ولدينا أصدقاء حكموا على وفق هذه المادة في زمن نظام صدّام، ولكن هذه الحصانة من النقد للقيادة السياسية تحوّلت اليوم إلى مستوى أعلى، وصار الزعماء السياسيون مقدسين، ونقدهم هو نقد لله سبحانه وتعالى. المهم اليوم ليس إقرار نشر كتب دراسية في الجامعات والمدارس الثانوية للتذكير بجرائم البعث، وإنما تثقيف الطلبة بالوسائل الواقعية التي يمكن اتباعها كي لا تكون بعثيًا في العمق، واستبداديًا في المجتمع والسلطة.
مثلما كان الرفاق البعثيون يتصرّفون وكأنهم فوق السلطة، فإن "الحجّاج" صاروا يقومون بالأدوار نفسها
إن نسيان البعث وجرائمه سهل ومتاح، وهو ما تقوم به أحزاب السلطة الحالية، من خلال تكرار هذه الجرائم، حتى يتساوى الزمنان؛ زمن البعث وزمن من تلاه. وهذا هو السبب الذي يدفع بعض شرائح المجتمع، حتى داخل البيئات التي تنشط بها أحزاب السلطة، في أن تستذكر بشيء من الفتور زمن البعث، أو قد تمتدح بعض جوانبه. لأنها ببساطة لم تر زمنًا مفارقًا للبعث.
إن زمن البعث ليس زمن الشياطين، تمامًا كما هو زمننا الحالي، وفي الزمنين جوانب جيّدة وأخرى سيئة، وشيطنة زمن البعث وتحويله إلى صنم يُرجم لا يصفّي وجه النظام الحالي ولا يغسله من ذنوبه المشابهة لذنوب البعث، حذو القذّة بالقذّة.
التذكير بالبعث وجرائمه يكون بالانعتاق من متوالياته الداخلية، وإنشاء نظام ديمقراطي حقيقي، لا يكمّم الأفواه ولا يجعل السياسيين فوق المجتمع، ولا يفرّض العقائد والأيديولوجيات بالقوة والإكراه والترهيب. وكلّ ما عدا ذلك هو عملية تبييض مستمرة لصفحة البعث وزمنه.