في النظر مطولًا إلى القراءات النقدية الموجهة للمجموعات المتشددة في سوريا، نرى أنها تأخذُ طابعًا كلاسيكيًا صرفًا، دون أن تقدم بحوثًا إشكالية، تحفر أكثر في أسباب وجودها، وتحاكي طريقة صعودها المتسارع في كافة الخريطة السورية، وتطبيقها للشريعة الإسلامية في مناطق نفوذها، ما يجعل من هذه الأبحاث ضرورًة ملحة أكثر من أي وقت سابق.
لا يوجد أي لبس في أن تنظيم "الدولة الإسلامية"، يملك نوافذ مفتوحة مع عدد كبير من قادة النظام السوري
تبدو المشكلة شبه معقدة عند الحديث عن هذه التنظيمات، وغالبًا ما يتم التنصل من الجواب على السؤال الإشكالي حول طبيعة وجودها، ومضامين النصوص الشرعية التي تعتمدها كمرجع أساسي لاستمرارية وجودها، بإرجاع تأسيسها للنظام السوري، واعتبار أنها وجدت لتنفذ أجندات وكالات الاستخبارات العالمية في مناطق سيطرة المعارضة السورية، ما يجعل حركة البحث في أدبياتها ثابتة مكانها، وبعيدة أتم البعد عن أسس البحث المنهجي.
اقرأ/ي أيضًا: انتقام بروكسل.. القهر والقهر المضاد
وكمثال على ما يجري من قراءات للحركات المتشددة في سوريا، يمكن القول إنه لا يوجد أي لبس في أن تنظيم "الدولة الإسلامية"، يملك نوافذ مفتوحة مع عدد كبير من القادة الكبار في النظام السوري، لكن ذلك لا يعني أن جميع عناصر الدولة يعملون لصالح وكالات الاستخبارات العالمية، لأن في هذه الفكرة تحديدًا تسخيف كبير لما يحدث على الأراضي السورية-العراقية.
حتى أن اقتناع البعض بأن دور تنظيم الدولة ينتهي مع بقاء أو نهاية النظام السوري، فيه شيءٌ من الرومانسية المفرطة في الأُمنيات، ما يبعد معظم الكتاب والباحثين بشكل أكبر عن البحث في عمق هذه الجماعة/الجماعات، والغوص أكثر في نصوصهم الفقهية وتفاسيرها، والمفسرون أنفسهم، إضافًة لمرجعياتهم الشرعية.
وعند الحديث عن غياب البحث المنهجي للحركات المتشددة، والقراءة في أصول نشأتها، يمكن التطرق إلى غياب ثلاث نقاط مهمة، أولها الإجماع على أن هذه التنظيمات تعمل لصالح الاستخبارات العالمية، مع إهمال وجود من هم مؤمنون فعلًا بتطبيق الشريعة الإسلامية، فهي إن ضمت عناصر تتبع لدول معينة، فإنها تضم في نفس الوقت أناسٌ يؤمنون تمامًا بفكرتهم، في فكرة الانغماسين الذين يكونون في مقدمة العناصر المقتحمة مثال على ذلك.
ويأتي ثانيًا، طريقة التعامل مع الرسائل التي يسربها أحد أعضاء مجالس الشورى، أو الشرعيين في هذه التنظيمات، على مواقع التواصل الاجتماعي، من باب عدم أهميتها، رغم أن معظم الرسائل فندت أسباب الخلاف بين تنظيم القاعدة وتنظيم "الدولة الإسلامية"، إلا أن طريقة التعاطي معها، كانت أقرب إلى الإهمال، وعدم البحث بها، وقراءة مستقبلها، طالما أن كاتبي الرسائل معروفين دائمًا، وهم مكاتب أجهزة المخابرات العالمية، وهو ما يمكن وصفه، بالتنصل من مسؤولية البحث، والاستعانة بأكثر الإجابات سهولًة، ريثما تأتي إحدى القوى الخارقة للقضاء عليها.
اقرأ/ي أيضًا: هل أنتج الانفجار السوري ثقافًة بديلة؟
أما النقطة الثالثة، وتعد من أهم النقاط السلبية في طريقة البحث داخل هذه التنظيمات، تكمن في دور وسائل الإعلام المرئية والمقروءة المعروفة عربيًا، والتي باتت تعتمد على السبق الصحفي، فهي دائمًا ما تسعى للتفرد بنشر أخبار الجماعات المتشددة، وتركيزها منصب على بلدان الربيع العربي والعراق، مع العلم أن هذه التنظيمات هي امتداد لباقي التنظيمات المتشددة المنتشرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلا أن وسائل الإعلام تحاول جاهدة أن تركز على استهداف التحالف الدولي لمعاقلها، ونشر سير أمرائها الذاتية، ما يجعلها تقدم معلومة سهلة التداول، وفي تعبير أدق مجانية، لأن هذه المعلومات معروفة لدى القاصي والداني، ناهيك عن أنه في معظم الأحيان يتم نفي الخبر لاحقًا، بعد أن تكون قد حصدت آلاف المشاهدات، وهو ما تحتاجه وسائل الإعلام الكلاسيكية في يومنا الحالي.
أشد ما نحتاجه هو العودة أكثر إلى جذور التنظيمات المتشددة، والبحث في تفسيراتها المختلفة للنصوص الفقهية
ولعل أكثر ما يبتعد عنه معظم الباحثين والمفكرين العرب، يتمثل في غياب القراءة النقدية الذاتية لليسار العربي، الذي ساهم في صعود هذه التنظيمات بشكل مباشر، إذ إن أغلبيتهم كانوا/ما زالوا ينتمون إلى جيل السبعينيات والثمانينيات من الحركات اليسارية، أي الفترة التي بدأ فيها نجم التنظيمات المتشددة بالظهور، بينما كان اليسار يلتف حول الدكتاتوريات العسكرية، اليساريين الكلاسيكيين في مصر وسوريا أكبر مثال على ذلك. طبعًا هذا لا ينكر بقاء عددٍ لا بأس به من اليساريين في دفة المعارضة لهذه الأنظمة، ما تسبب في اعتقالهم داخل أقبية المخابرات العربية لسنواتٍ طويلة.
إلا أن غالبية اليسار العربي، أجمع على وصف هذه التنظيمات بـ "القوى الظلامية"، لكنه لا يمكن نفسه عناء البحث في جذورها، بقدر ما يبحث في انتفاضات اليسار ضد الرأسمالية في العالم الغربي، فهو يعتبر نفسه الجنين الضال لعلمانية وبروليتارية اليسار العالمي، الذي وقف في وجه الدكتاتوريات في أوروبا وأمريكا اللاتينية، بينما هو يقف إلى جانب الدكتاتوريات العسكرية ويتبنى وجهة نظرها، بما أنها تحفظ له حرية قراءة "البيان الشيوعي" من دون مراقبة، وتؤمن له العداء الدائم مع الليبرالية العربية، بعيدًا عن العنف الثوري أحد أهم مبادئ حركات التحرر العالمية.
إن أعوز ما نحتاجه اليوم، هو العودة أكثر إلى جذور، ونشأة هذه التنظيمات، والبحث في تفسيراتها المختلفة للنصوص الفقهية، التي تستمد منها قوانينها الشرعية المسلطة على الناس، لا أن ننتظر نهضًة أخرى للمستشرقين الذين حققوا نصوص الحركات الإسلامية الأولى التي نشأت منذ العصر الأموي، طالما أننا نملك وسائل البحث المعرفية التي يحتاجها أي باحث، وعلى رأسها اللغة العربية، التي تعتبر اللغة الأصلية للنصوص الفقهية المستخدمة كمراجع على اختلاف تفسيرات هذه التنظيمات لها.
اقرأ/ي أيضًا: