نال محمد شياع السوداني أخيرًا مبتغاه وقطع الشوط الأكبر من رحلته نحو رئاسة حكومة العراق، بعد نحو عقد من تكرار تداول اسمه بعد كل انتخابات بشكل غير رسمي، قبل أن يرشحه الإطار الشيعي اليوم رسميًا.
بات السوداني أقرب من أي وقت مضى إلى القصر الحكومي بعد سنوات طويلة تداول اسمه ضمن قائمة المرشحين
مرّ شهرٌ عصيب منذ أن أعلن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر استقالة نوابه الـ 73، وانتقل ملف تشكيل الحكومة واختيار رئيسها إلى عهدة الإطار. يقول مطلعون على كواليس الحوارات لـ "الترا عراق" إنّ الوصول إلى لحظة إعلان السوداني كان عسيرًا.
وبات محمد شياع السوداني مرشحًا رسميًا لتشكيل الحكومة العراقية المقبلة، بعد جعفر الصدر المرشح المعلن الوحيد، والذي انسحب مع انسحاب الكتلة الصدرية، وهي المرة الثانية التي يشغل فيها السوداني محل مُنسحب صدري، حيث سبق أن شغل منصب وزير الصناعة وكالةً بعد انسحاب الوزير الصدري محمد صاحب الدراجي إثر احتجاجات العام 2016.
تسريبات المالكي
تنازعت قوى الإطار (نحو 130 نائبًا من أصل 329) بين عدة رؤى بعد انسحاب الكتلة الصدرية. زعيم ائتلاف دولة القانون ورئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي -الذي يشكل حزبه الكتلة الأكبر داخل الإطار ويقول إن لديه نحو 60 نائبًا- دعم اختيار رئيس حكومة "إطاري صريح وقوي وخبير" وهو بذلك يقصد نفسه، وقد رشحه ائتلافه رسميًا لشغل المنصب مجددًا.
عارض المالكي اختيار شخصية "توافقية غير استفزازية"، وقال أنصاره إنّ "المرحلة تتطلب رجلاً قويًا". أما بقية أطراف الإطار، ومن بينها فصائل مثل "عصائب أهل الحق"، فلم تبدِ حماسًا للفكرة، وطرحت أسماء أخرى أقل استفزازًا للصدر أو للرأي العام المناوئ لقوى وفصائل الإطار.
يقول سياسي حضر جلسات تداولية داخل الإطار في حديث لـ "الترا عراق" إنّ "ظهور التسريبات بغض النظر عن مدى دقتها، أنهى إمكانية تقديم المالكي مرشحًا عن الإطار، الأمر الذي دفعه للمطالبة بالاحتكام لتصويت الهيئة العامة التي تضم جميع نواب الإطار، معولاً بذلك على أنّه يهيمن على غالبيتهم العددية".
وضع ترشيح السوداني حدًا لمرحلة عسيرة داخل الإطار التنسيقي انتهت باستبعاد شخصيات الخط الأول عقب تسريبات المالكي
ويضيف، "تم الاتفاق لاحقًا على طرح زعيم منظمة بدر هادي العامري مرشحًا منافسًا للمالكي، وكانت مجرد مناورة، فالعامري لم يكن ينوي الترشح، لكن تقدمه للترشيح قاد إلى الخطوة اللاحقة، وهي الاتفاق على استبعاد ما يسمى شخصيات الخط الأول، وهو ما يعني عمليًا استبعاد ترشيح المالكي".
ساهم انسحاب قاسم الأعرجي، مساء السبت -وهو أحد مقرّبي العامري وأبرز المرشحين- بإفساح الطريق أمام إعلان السوداني مرشحًا وحيدًا للإطار التنسيقي الشيعي مساء الأحد.
محمد شياع السوداني والصدر
تفترض قوى الإطار أن ترشيحها للسوداني واستبعاد المالكي يمثّل غصن زيتون إلى الصدر، لكن الصدريين لا يتفاعلون إيجابيًا مع الفكرة.
يقول مسؤول صدري لـ "الترا عراق" إنّ "التيار الصدري لا يعتقد أن الإطار كان جادًا في طرح اسم المالكي من الأساس، بل كانت محاولة لرفع السقف تمهيدًا للدفع بشخصية من مقربي المالكي".
ويضيف، "أوصلت أطراف إطارية طيلة الشهر الماضي، رسائل إلى مقربي الصدر، تتحدث عن خلاف بين السوداني والمالكي، وأنّ الأخير يقف بوجه ترشيح الأول، في محاولة على ما يبدو لتغيير موقف الصدريين من السوداني، لكننا لا ننطلق من المواقف الشخصية في تقييم الشخصيات، ونعتقد أنّ السوداني اليوم هو مرشح فصائل إطارية معروفة بتبعيتها للخارج، لكن الموقف الرسمي في هذا الشأن –إن كان ثمة موقف- سيصدر من الصدر شخصيًا".
يعد السوداني خيارًا "غير مستفز" للصدر وفق الإطاريين لكن الصدريين تفاعلوا بحدة مع إعلان الترشيح
خلال الساعات الماضية نشطت الصفحات الصدرية في تذكير جمهورها بموقف الصدر من السوداني، عبر تعليقين لصفحة الصدر تنتقد ترشيح السوداني عام 2019 بديلاً لرئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي.
السوداني والرأي العام
لمع اسم محمد شياع السوداني بعد تسلمه وزارتين دفعة واحدة، العمل والشؤون الاجتماعية أصالة، والصناعة وكالة، عام 2016، وقد ارتبط اسمه بتنشيط الصناعة الوطنية.
يقول مناوئوه، إنّ "عهد تسلمه لوزارة الصناعة لم يشهد تصنيع العراق للأقمار الصناعية!"، في إشارة للمبالغة في تقييم تجربة الوزير السابق، لكن اسم السوداني مازال مرتبطًا بمساعي تنشيط الصناعة الوطنية بالنسبة لكثيرين، فهو يجيد صوغ خطابات قريبة من الجمهور، وقد كثف في سنوات استيزاره ظهوره الإعلامي واعتاد على مخاطبة العامّة عبر صفحته الشخصية ببث مباشر، للإجابة على الأسئلة والتعليقات بشأن الصناعة أو مسائل الضمان الاجتماعي، وهو سلوك نادر بين الساسة.
ارتبط اسم السوداني بمساعي تنشيط الصناعة و"النزاهة" لكن منتقديه يرفضون المبالغة في تقييم تجربته
وفي أرشيف السوداني سجل كبير من الخطابات التي يستنهض فيها العمال العراقيين، ويتحدث عن تقدم العراق في مجال الصناعات الكهربائية وغيرها، لكن ارتباط اسمه بالمالكي، بقي دائمًا محل انتقاد، رغم أن مقربي ائتلاف المالكي كرروا استخدام اسم السوداني خلال السنوات الماضية للتدليل على أن ائتلافهم "يضم أيضًا شخصيات نزيهة".
السوداني والمواجهة
تنطبق عبارة "الخط الثاني"، التي درج استخدامها مؤخرًا، على السوداني بشكل دقيق، فهو يفضّل عدم الخوض في القضايا السياسية أو الكبرى، أو الاحتكاك بالقوى النافذة، ويترك تلك الشؤون لـ "الخط الأول"، ويلتزم بسقف تصريحات بمستوى مادون الحديث عن السلاح المنفلت أو التدخلات الإقليمية وغيرها.
قد تنطبق شخصية السوداني "الملتزمة بتراتبية قياداته" أيضًا، مع توجه عبّرت عنه شخصيات داخل الإطار التنسيقي للمرحلة المقبلة، ينص على تشكيل ما يشبه "مجلس حكم" يضم قيادات أحزاب الإطار، ويكون الحاكم الفعلي وراسم السياسات، بينما يتولى رئيس الوزراء الذي يرشحه الإطار تنفيذ ما يُطلب منه، ويلتزم بعدم الخروج عن الطاعة.
ينتقد المقرب من الإطار التنسيقي سليم الحسني في رسالته الأخيرة اختيار السوداني، ويتهمه باستلام رشوة مليونية ضخمة مقابل التوقف عن إثارة ملف شركات الهواتف النقالة، وهو ما رد عليه مريدو السوداني وطالبوا بتقديم الدليل.
لا تنتظر قرارات جريئة من السوداني في ظل التزامه بموقعه في "الخط الثاني" وفق منتقدين مقربين من الإطار
لكن الحسني يشير في رسائل سابقة أيضًا إلى أنّ اختيار شخصيات مثل السوداني تعبر عن رغبة قوى الإطار بترشيح رئيس وزراء محكوم لا حاكم، وهو ما يعني وفقًا لتلك التقديرات، أنّ صدور قرارات جريئة على مستوى مكافحة الفساد أو كشف جرائم الاغتيال السياسي أو أية مقاومة لسنن النظام السياسي، لن يكون أمرًا مُنتظرًا من السوداني.
السوداني وتشرين وقتلة المتظاهرين
أظهر محمد شياع السوداني مواقف غير مألوفة من أقرانه أثناء حقبة تظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 2019، وعمليات القتل التي رافقت الاحتجاجات.
انضم السوداني إلى القلة من الساسة داعمي التظاهرات بعد شهر من اندلاعها، ونشر رسائل عدة ابتداءً من تشرين الثاني/نوفمبر، حيث طالب المتظاهرين بعدم إنهاء الاعتصامات، وشن هجومًا على الطبقة السياسية وطالبها بالتوقف عن الألاعيب، ووصف الأحداث بالثورة الشعبية، وهي رسائل نشرها السوداني بينما كان أقرانه في الأحزاب والفصائل الموالية لإيران وبعض القوات المسلحة منخرطون في حملات التحريض أو التصفية ضد المتظاهرين.
وبعد استقالة عبد المهدي، قدم السوداني في كانون الأول/ديسمبر استقالته من حزب الدعوة وائتلاف دولة القانون، بالتزامن مع بدء تداول اسمه لرئاسة الحكومة.
يشكك نشطاء بدوافع السوداني من الخروج عن مسار رؤسائه وقياداته في شأن الموقف من التظاهرات، خاصة أنّه بقي بعيدًا عن مرمى الهجمات الإعلامية الفصائلية التي طالت السياسيين المؤيدين للاحتجاجات، إضافة إلى عودته بعد انتخابات 2021 لينضم إلى الأحزاب ذاتها في الإطار التنسيقي.
أظهر السوداني مواقف إيجابية من احتجاجات عام 2019 وانضم إلى المطالبين بكشف "القتلة" والمتورطين بالاغتيالات
يقول المسؤول في التيار الصدري إنّ "مواقف السوداني من التظاهرات كانت تستهدف تسويق نفسه لتولي رئاسة الحكومة خلفًا لعبد المهدي، وأنّ حلفاء إيران الذين تبنوا أقصى خطابات التحريض ضد المتظاهرين، تركوا أحد عناصرهم في منطقة أخرى لاستثماره إن لزم الأمر في وقت لاحق"، وهو ما يتفق معه نشطاء آخرون. لكن مواقف محمد السوداني بقيت حادة ضد قتل المتظاهرين والاغتيالات، حتى بعد نهاية "مزاد رئاسة الحكومة" وتولي مصطفى الكاظمي المنصب، حيث قال صيف العام 2020، إنّ "عدم كشف قتلة المتظاهرين والمتورطين بالاغتيالات السياسية هو ما يتسبب بانجرار البلاد إلى الاقتتال".
رئيس وزراء خارج "البرجوازية الشيعية"
ينحدر محمد شياع السوداني من محافظة ميسان الجنوبية، وهو بذلك أول مرشح رسمي لرئاسة الحكومة من خارج محافظات الوسط، كما أنه لا ينتمي إلى أجواء القوى والشخصيات المعارضة لنظام صدام حسين في الخارج، وهو أيضًا لا يحمل جنسية أجنبية، وهي المواصفات الثلاثة التي طالما حاولت الفصائل رفعها في إطار الصراع السياسي داخل القوى الشيعية. لكن السوداني وعائلته ينتمون إلى حزب الدعوة الإسلامية طيلة عقود.
تحاول الفصائل من خلال رفع شعارات "عراقيي الداخل، بلا جنسية أجنبية، من الجنوب"، صياغة معادلة تعزز حضورها السياسي على حساب قوى الجيل الأول (حزب الدعوة والمجلس الإسلامي الأعلى ومنظمة بدر)، لكن طريقة تعبير الفصائل عن فكرتها لا تخلو من ركاكة، فالمواصفات الثلاث التي تنطبق بالفعل على السوداني، تعيد السلطة من جديد إلى أجواء حزب الدعوة الإسلامية الذي هيمن على السلطة نحو عقدين، والذي تحاول الفصائل ومعها التيار الصدري الحلول محله على رأس السلطة.
ويمكن القول، أنّ الجديد فيما يتعلق بالسوداني، هو أنّه أول مرشح خارج "البرجوازية السياسية الشيعية"، فهو إذ لا ينتمي إلى قيادات الصف الأول سياسيًا، فهو أيضًا لا ينتمي إلى "عوائل الصف الأول" التي اعتادت القوى على تقديم مرشحين من داخلها.
يعتبر السوداني مرشحًا من خارج البرجوازية السياسية الشيعية لكن وصوله إلى القصر الحكومي يعني إعادة السلطة إلى حزب الدعوة
ويقترب المراقبون من الإجماع على أنّ ترشيح السوداني يمثل متغيرًا غير مسبوق لجهة المواصفات الشخصية للمرشح، لكنه متغير مرتبك، فمرور السوداني قد يعني أيضًا إعادة إحياء لقوى الإسلام السياسي الشيعي التقليدية، وعلى رأسها حزب الدعوة، وهو ليس مسارًا مفضلاً بالنسبة لكثير من قوى الإطار التنسيقي الشيعي قبل غيره.