كانت أمنيتي أن تنبثق تنظيمات سياسية تنافس الصدريين في الانتخابات ضمن الأسس الديمقراطية، بدلًا من تشتيت الجهود في العالم الافتراضي من أجل التميّز الفارغ. وحينما كتبنا عن ضرورة تنظيم قوي أسوة بقوة تنظيم الصدريين، اعتقد بعض المغلوبين على أمرهم أن السياق يشير إلى مماثلة الصدريين! وتناسوا كلمة "منافسة". ماذا يعني أنّك تماثل تنظيمًا سياسيًا يشارك في العملية السياسية؟ يعني أنك تتشابه معه في شعاراته وبرنامجه الداخلي وتغدو معه نسخة طبق الأصل.
لا يوجد تمثيل حقيقي يمثل وزن الحركة الاحتجاجية ويليق بحجم ضحايا تشرين
هل يمكن لعاقل أن يقتنع بمثل هذا الاستنتاج الساذج؟ لكن حينما يتسيّد التفكير الرغبوي ويهيمن على مجمل فعالياتنا الفكرية والسلوكية ويكون للشعبوية الكلمة الفصل، فلا ننتظر غير هذه الاستنتاجات الحمقاء. والنتيجة الأولى: لم نحظَ لا بتنظيم متميّز عن الآخرين ومنافس لهم، تنظيم "عَلماني" مثلما كانوا يحلمون أو يدّعون، ولا بتنظيم يماثل الصدريين. هكذا ينتهي بنا الحال حين تسلّم أمورك بيد جمهور حماسي يفتقر لقوة العقل المنظم.
في الفورات الحماسية يصعب عليك التكلم بلغة العقل، ذلك أن الجمهور حماسي بطبعه، ولا يلتفت في تلك اللحظات إلى منطق العقل. لكن عندما تهدأ الفورة ويسكن الحماس يأتي دور العقل من أجل صياغة المطالب ضمن إطار تنظيمي يشارك في العملية السياسية، أو ينظم نفسه لقيادة معارضة واسعة النطاق تكون فيه الحاضنة الشعبية حجر الزاوية. والنتيجة الثانية: فشل مروّع في الانتخابات الأخيرة التي تم إقرارها باسم تشرين، وفشل في تنظيم معارض يتمتع بحاضنة شعبية ساندة.
وبات من الصعب التعرف على التنظيمات السياسية الناشئة، التي حمل البعض منها اسم الحراك الاحتجاجي، فيما إذا كانت تمثل تشرين أم لا. والنتيجة الثالثة: لا يوجد تمثيل حقيقي يمثل وزن الحركة الاحتجاجية ولا يعكس حجم الضحايا الذين سقطوا غدرًا. وهذا يؤشر بوضوح مقدار التبعثر والتشرذم الذي نعانيه، ويؤشر حجم وقوة مواقع التواصل الاجتماعي التي ساهمت بابتلاعنا كليًا، فأصبحنا معارضة افتراضية يتحدد وقتها بالجلوس خلف الشاشة، ومن ثم ينتهي كل شيء بإغلاق اجهزتنا الذكية، وشن الهجمات على كل من يخالفنا في الرأي.
كنّا نمنّي النفس بتنظيمات مختلفة في الرؤى والأهداف. تنظيمات تبرهن لنا على الأقل ثمة وجود لحركة اجتماعية تستلهم أفكارها من قيم الدولة الحديثة. ليكون لدينا حراك سياسي -بشقه الديني والدنيوي- ينبع من الداخل ولا يأتمر من الخارج. فتنحصر المنافسة السياسية بين حركات وطنية تحمل هموم الداخل، وفي تلك اللحظة سنكتشف إذا ما كنّا حقًا نختلف عن الحركات الدينية من حيث السلوك والتفكير أم نحن متشابهون لكننا لا نتملك السلطة الآن. وإن كنت اعتقد أن بنية التفكير واحدة في المجتمع العراقي، تتحكم بها روح "الشيخ" القبلية. والنتيجة الرابعة: لم نحسم أمرنا بوصفنا دينين أم دنيويين في تعاطينا لقضايا السياسة، فلم نحصل لا على هذه ولا تلك.
كنّا نحلم -والحلم حق- أن نوظف اختلافنا بشكل عقلاني داخل البرلمان، ونستثمر طاقتنا الحماسية المُشَتَّتَة في الصراخ والعويل. وأن نتجاوز ما حصل على أيدي الصدريين في ساحة التحرير وتعرّض الشباب للضرب بالعصيّ. وكان الأَولى مواصلة الحراك بمختلف السبل، مثلما تعرض الصدريون لانتكاسة ضرب الأمريكان لهم، و"صولة الفرسان" على يد المالكي، والزج في السجون. لكن، وبما أنهم تنظيمات عقائدية صلبة، واصلوا المشوار وكان لهم قصب السبق في العملية السياسية بكل ما تحمل من مخرجات جيدة وسيئة، وهم الآن يتسيّدون الساحة السياسية وأضحوا رقمًا صعبًا ولاعبًا سياسيًا مهمًا لا يمكن تجاوزه. والنتيجة الرابعة: تقدم الصدريون سياسيًا وتخلّفنا عدّة خطوات للوراء. واتضح فيما بعد أننا أقل بكثير من التنافس السياسي بقدر ما تحركنا عوامل ذاتية يلعب فيها العامل النفسي دورًا جوهريًا.
صحيح أن التحديات كبيرة، وصحيح أن التنظيمات العقائدية ليست بالسهلة -وهذا ما كتبنا عنه الكثير، وجوبه بالتهكم والتندّر-، وصحيح أنها لو تعرض وجودها للتهديد ستضرب بقوة حفاظًا على هوية الجماعة. لكن من الصحيح أيضًا ثمة أغلبية صامتة تبحث عن تنظيم سياسي لا ينجر وراء انفعالاته، ولا يحوّل الصراع السياسي إلى صراع عشائري ومواقف شخصية. تنظيم لا ينشغل بانتكاساته المرحلية ويغرق في رثاء الذات، ويملأ العالم الافتراضي صراخًا وضجيجًا، ويحاول جاهدًا أن يميّز نفسه لكنّه لا يمتلك أدنى المؤهلات، ويتناسى مهمته الجوهرية. النتيجة الخامسة: ذهبت دماء الشهداء أدراج الرياح، وذهبت معها كل أحلام التغيير. وها هم الصدريون عادوا الآن من جديد يتسيّدون المشهد السياسي تدفعهم العقيدة والولاء لرمزهم الديني، فيما نحن منشغلون بالتهكم و"التحشيش" نعبث بأجهزتنا الذكية ونقضي أوقات الفراغ، ونقود "المعارضة" من معتقلنا الأزرق، وننسى هذه الحقيقة: دائمًا ما تنتصر تفاهاتنا الشخصية على القضايا الكبرى. في داخل كل واحد منّا تافه كبير.