خبير السجّاد
في سوق كزرخانه بقمّ الإيرانية هتف صوتٌ باسمي، التفتُّ، كان زميلي في الدراسة الحوزوية وصديقي مرتضى. عَبَر الشارع إليّ وكان يصحبه شابّ فارع الطول بلحية شقراء خفيفة. تعارفنا، كان اسمه حيدر، وكان لا يشبهنا، لا يشبه مرتضى ولا يشبهني ولا يشبه أحدًا في كزرخانه ولا في قمّ. من ذلك النوع الذي يشعرك بأن المكان ليس مكانه. بعض الناس لهم سيماء السائح أينما ذهبوا، حتى وهم في بيوتهم، طارئون على المكان الذين يحلّون فيه، ودائمًا على أهبة السفر. كان حيدر الأشقر واحدًا من هؤلاء السائحين.
بعد ساعة من المشي وتدخين سكائر "بهمن" عرفت أن له أخًا في لندن وأنه سيسافر إليه بعد غد. أحتفظ الآن بذكرى وجهه مبتسمًا ابتسامة متعالية غامضة وعينين عميقتين نسيتُ لونهما.
ودّعته ورجعتُ إلى سكني في الحوزة. قبل منتصف الليل دخل عليّ مرتضى وقال:
ـ أتعرف لمَ سيسافر حيدر إلى لندن؟
ـ لا
ـ لينفّذ فتوى الإمام.
ـ ؟
ـ سيقتل سلمان رشدي.
سنوات طوال مرّتْ، صرتُ في دمشق ثم في كندا وبقي مرتضى في إيران، ولم يقتل أحدٌ سلمان رشدي، فشل حيدر في مهمته، ولم يفشل، بلغني عن طريق أصدقاء في لندن أنه صار غنيًا، عمل في مؤسسة للتحف الشرقية، السجاجيد خصوصًا، بصفته خبيرًا في تقييم أهميتها ومعرفة أنواعها، تزوّج وأصبح لديه ابنة وابن رأيتهما بملابس البحر في صورة نشرها على صفحته في فيسبوك، اللحية الشقراء خالطها بياض ولا يبدو على محياه سيماء من يريد أن يقتل أحدًا، لكنْ ظلتْ عليه علامات السائح، والمكان ليس مكانه.
ملحد الشيعة
في 2009 كنتُ سكرتير التحرير بجريدة الصباح، أعثرني قدري بشابّ جاء إلى الجريدة ليعمل فيها، نحيل وخجول ومقتصد في كلّ شيء، يتملكه فرح طفوليّ كلما قيل له أنه يشبه كافكا، فيه عدوانية يجاهد على أن يخفيها، لا يشرب ولا يدخن لكنه ملحد، هكذا كان يعيد التعريف بنفسه بمناسبة وبدونها "أنا ملحد" يقولها للرائح والغادي كأنه يكشف عن اسمه.
الزميل الملحد صفراويّ المزاج، سنحتْ له فرصة السفر إلى إيران مع وفد يضمّ أدباء وصحفيين، ولأنه ملحد ولأنه متمرد ولأنه يشبه كافكا راهن أصدقاءه على أمر جلل: أن يذهب إلى إيران ومعه كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية" وأن يقرأه هناك في إيران وأن يعود إلى العراق ومعه الكتاب، تحديًا لفتوى الخمينيّ وإثباتًا لتمرده. كان كافكا يحبّ رشدي وكانت أمنية حياته أن يلتقيه ليختبر الصفراويّ جرأته أمام جرأة الكاتب الهندي البريطانيّ مهدور الدم.
ذهب الوفد إلى إيران وعاد، وعاد معه كافكا العراقيّ لكنه رجع مسحورًا بشيء لم يدركه أحد حتى الآن، انقلب إيرانيًا، صار طائفيًا، أصبح كافكا الطائفة وملحدها، ونُسي سلمان رشدي ونُسيت آياته الشيطانية، ذهب النحول والخجل والتمرّد في يوم واحد، وظل المزاج الصفراويّ والعدوانية لكنه لم يعد مضطرًا لإخفائها.
شحذ السكين
أمسِ طُعن سلمان رشدي وهو يلقي محاضرة في نيويورك. طعنه شابّ رأيت صورته وهو يُقتاد من قبل الشرطة. تمعنتُ في ملامحه وقفز إلى خاطري أنه قدم إلى أمريكا ليعمل.
شابّ محزون أبدًا لأنّ عمله لا يترك له فرصة تطوير موهبته في الكتابة، مؤرجح بين متطلبات عائلته هناك وضغط نداء الرواية التي تركها على كومبيوتره منذ شهور، مقطّع الأوصال بين رغبته في عيش حياته ورغبته الأعمق في الحفاظ على جذر ديني يشدّه إلى طفولته. تائه بين هذه الحياة والحياة الأخرى التي يريدها ويوقن بها لكن طريقها شاقة والدخول إليها أشقّ. وهو يمشي على غير هدى، رأى إعلان محاضرة سلمان رشدي فشحذ سكينًا واشترى بطاقة ودخل لينتقم من الكفر ومن الرواية ومن الحياة ومن نفسه.
حُمل سلمان رشدي إلى المستشفى، لم يقتله حيدر الأشقر ولا التقاه كافكا الشيعة، صارت الحكاية كلها من نصيب رجل لا نعرفه، لكنه مثلهما تمامًا، مثلنا جميعًا، مثلي ومثلك، أشياء تافهة صنعتْ مصيره.