مهمَّة العقل الأساسيَّة تكمن بالتفكّر وإعادة إنتاج المعرفة عبر نقد المسلّمات السائدة فيها، لأن التخلّي عن نقد المسلّمات يؤدي إلى كثرتها ومن ثم ضيق مساحة التفكير وتوقّف العقل. لذلك نجد بأنَّ العلوم الصرفة، ومع أنها مبنيَّة على التجريب والتحقّق، لكن ليست فيها مسلّمات خالدة، لأنها تنتقد السائد عبر الاعتراف بثغراته، والسعي لمحاولة سدّها، ليس عبر تبريرها أو إفشال أي عملية نقد لها، بل عبر سماع مختلف وجهات النظر، لأن لا أحد يعلم من أين وكيف تأتي الحلول.
مجرد اطّلاعك على كتب الأديان والمذاهب الأخرى لا يكفي لتحويل إيمانك أنت إلى إيمان صاف من كدر التأثر بدين الأبوين
لم يكن أحد ليشكَّ بحقيقة وجود الجاذبية، لماذا؟ لأن الكثير من التنبؤات الصادقة متأسّسة عليها، كتنبؤنا بجميع حالات الكسوف والخسوف ولمئات السنين مستقبلاً. فضلاً عن تأسس الكثير من الاختراعات والخدمات التي تُيَسّر حياتنا على نتائجها، فنحن نستعمل الطائرات بفضل فهمنا للجاذبية، ووصلنا القمر والمريخ لنفس السبب. ومع ذلك لا تُعامل الجاذبيَّة على أنها مسلَّمة ولم تزل الأبحاث تختلف في حقيقتها وفي طبيعة الجُسيم الذي ينقل قوتها.
اقرأ/ي أيضًا: عُتاة قريش المُبجّلون دائمًا
مناسبة هذا الكلام، وهو أن الأيديولوجيات عمومًا والدينية منها خصوصًا كثيرة المسلّمات، هي ترتكز على مجموعة محدّدة من الأفكار ثم تقدّسها وترفض تعريضها للنقد أو حتّى إعادة القراءة. وهذه مصيبة كبرى، إذ كيف نتأكد من كون المسلّمة تستحق التسليم من دون نقدها؟ والمفارقة أن هذه الأيديولوجيات تطالب الآخرين بالانضمام إليها عبر نقد مسلّماتهم، أي أنها تطالب الآخرين بنقد إيمانهم واستبداله بإيمانها. أو يكونون على خطأ، لكنها لا تفعل ذلك مع نفسها!
المؤمنون بالدين الإسلامي، شأن المؤمنين بالكثير من الأديان، يعتقدون بأن اتْباع جميع الأديان الأخرى ضالين، وأنهم سيُعذّبون يوم القيامة نتيجة عدم إيمانهم بالدين الإسلامي، وهذا يعني أن جميع البشر من غير المسلمين مطالبين بالعدول عن أديانهم عبر نقد مسلماتها والبحث عن المثالب فيها، ثم مغادرتها والاستمرار في البحث عن الحقيقة في الأديان الأخرى وهكذا إلى أن يصل بهم المطاف إلى الدين الإسلامي ويستقر إيمانهم عليه.
ولنتخيل صعوبة هذا الموضوع على الناس المشغولة بتدبير عيشها! لكن هذه الطريقة بالتفكير تعني أن الدين الإسلامي يعتبر أن الإيمان لا ينعقد لمجرد التصديق بدين العائلة، بل يجب فحص هذا الإيمان وعرضه على النقد الدقيق والموضوعي. وهذا يُنتج أن ما يحسبه المسلمون إيمانًا منهم بدينهم ليس كذلك، وهم لا يُثابون عليه، لأنه لم يُعرض على النقد، فليس من المعقول أن يطالب الله، العادل، جميع المؤمنين بالأديان الأخرى بأن ينتقدوا أديانهم وينتقلوا منها إلى الدين الإسلامي أو يحرقهم بالنار، ولا يطالب المسلمين بذلك مع أن المسلمين ليس لهم فضل بدخولهم في الإسلام سوى أنهم مولودون في عوائل مسلمة!
أغلب المسلمين يرفضون حقيقة أن إيمانهم بالإسلام لا يُعول عليه لأنه موروث، فهم لا يعتقدون بأن إيمانهم بالله ناتج عن وراثتهم إيمان الأبوين. ويظنون أن ثرثراتهم حول الدين التي يتبادلونها أوقات السمر كافية لتجعل إيمانهم ناشئ عن نقد وفحص وتدبّر. لا يا سادتي، لأن أتباع جميع الأديان يتبادلون الثرثرات كما تفعلون وهم يعتقدون مثلكم بأن هذه الثرثرات تكفي لأثبات حقّانيّة أديانهم وبطلان الأديان الأخرى، فلماذا يعذّبهم الله؟ لماذا لا يكتفي بثرثراتهم ويعذّبهم بالنار، ويكتفي بثرثراتكم ويثيبكم الجنّة؟ أي إله ظالم وغير عادل ولا منطقي هذا؟
هناك شريحة أخرى من المؤمنين ممن يوفرون المقدمات المهمّة لعملية نقد المسلمات، أقصد كثرة القراءات وسعة الاطّلاع. وعلى هذا الأساس يعتقدون بأنهم حقّقوا قاعدة الإيمان الحقيقي، وعرّضوا دينهم للنقد وبالتالي فَهُم المؤمنون حقًّا. لكن هذا غير صحيح للأسف، فمجرد اطّلاعك على كتب الأديان والمذاهب الأخرى لا يكفي لتحويل إيمانك أنت إلى إيمان صاف من كدر التأثر بدين الأبوين. وإلا فالكثير من أتباع المذاهب المتشدّدة ممن يقتلون الناس يمينًا وشمالاً هم بالحقيقة أصحاب اطّلاع ونظر، ولديهم آراء نقديّة بخصوص المذاهب الأخرى وعلى أساس هذه الآراء يُفْتون بجواز القتل. فهل يصح أن نقول بأن كثرة قراءاتهم وسعة اطّلاعهم كافية لمرضاة الله عليهم؟ لا طبعًا. لماذا؟ لأن التكفيري وأمثاله لا يقرأون كتب المذاهب الأخرى بحثًا عن الحقائق الموجودة فيها، بل يفعلون ذلك بحثًا عن المثالب المنتشرة فيها ليبرروا ويدعموا تكفيرهم لها. أي أنهم لا يوفرون واحدة من أهم أسس ومبادئ فهم وجهة نظر الآخر، وهي قاعدة الخروج فعلاً من قاعدة أنك على حق وأنه على باطل، فإذا لم تشكَّ فعلاً بمسلماتك فأنت عاجز عن فهم الآخر مهما قرأت له أو ناقشته. وحالك بالضبط حال التكفيري الذي يقرأ لك ويناقشك ثم يُفتي بضلالك ويحكم بقتلك، وهو مطمئن تمامًا إلى أن الله راض عنه وسيسكنه الجنّة داخل قصر مزدحم بالحوري العين.
المستشرقون قرأوا الدين الإسلامي وحقّقوا فيه ودقّقوا بمقولاته كما لم يفعل الأعم الأغلب ممن يصنّفون بأنهم علماء للمسلمين، فلماذا لم يتحول المستشرقون إلى الدين الإسلامي؟ السبب أنهم لم يقراؤه بدافع تفهم مقولاته، بل بدافع فهمه باعتباره موضوعًا للبحث.
إذًا، من أجل فهم المختلف علينا أن نضع جانبًا جميع المسلمات التي نؤمن بها، ثم نتأكد من أن غايتنا هي فهمه بشكل مجرد، لا فهمه من أجل تسفيه آراءه أو الرد عليها أو تفنيدها دعمًا لعقديدتنا، لأن هذه الغاية ستفشل مسعانا تمامًا.
إذا لم تشكَّ فعلاً بمسلماتك فأنت عاجز عن فهم الآخر مهما قرأت له أو ناقشته
الخلاصة، لا يكون الإيمان إيمانًا دون أن يتم فحص مسلماته وثوابته، فإذا لم تستطع أنت أن تفحص، فلا تمنع الآخرين أو تشكك بهم أو تتّهمهم، لأن الحق بالتفكير والإيمان لا تمتلكه وحدك.
اقرأ/ي أيضًا: