"لا يفكر المرء لكي يعرف فقط ما هو موجود أو لكي يتصور ما هو واقع، بل يفكر لكي يسهم في تشكيل العالم..". علي حرب، الفكر والحدث
.لا يوجد لدينا مبرر يمنعنا من التسليم بهذه المقدمة: إن النظام السياسي المعمول فيه بالعراق لا يساعد على التفكير الخلّاق. لا أقصد الحجر المطلق على التفكير، أو تلك المنح الأبوية من حرية التعبير التي نحظى بها بين الحين والآخر، وبالأخص حين نكون شخصيات مغمورة بعيدة عن المساءلة والتأثير، بل أعني بالذات ذلك التفكير الذي يساهم في تشكيل وصياغة الواقع، وهذا الأخير لا زال يندرج في عداد المُحرم، وبتعبير أكثر دقة، لا زال في عداد المستحيل التفكير فيه.
الذي حدث مع برنامج "المحايد" مؤخرًا يكشف عن بنية النظام السياسي في العراق
ليس هذا فحسب، وإنما تتوفر في بنية هذا النظام السياسي عناصر تهديم تتمتع بضربات استباقية ضد كل محاولة لفتح إمكانيات جديدة في التفكير، وهذا ما حصل بالضبط مع كادر برنامج "المحايد". إنها كانت ضربة استباقية بحق أعطت درسًا مهمًا يكشف العناصر الرئيسية في بنية هذا النظام، وهي منع أي صياغة وتشكيل مُحتملة لواقعنا السياسي والاجتماعي.
إذًا، يمكن صياغة تعريف ينسجم مع نظامنا السياسي "الديمقراطي"، وهو أنّ الاستبداد هو "تفكير" خارج الحدث، بمعنى أنه يحيل إلى صياغات لا تاريخية مقطوعة الصلة من الحدث المتجدد، ونوع من الحراسة البغيضة لمقولات سياسية جامدة. إنه نظام لا يحتمل فكرة الاختلاف ويدافع بشراسة عن نسخه المطابقة لأصلها، ويحبس الأفراد داخل هويات مغلقة عصية على كل حالة تنوع.
لذلك يصعب تعريف نظامنا السياسي على أنه نظام ديمقراطي. يمكننا أن نتبجح بالتعددية الحاصلة في العراق، والانتخابات الدورية، لكنها تعريفات لا تلامس سوى الشكل، أما المضمون، وفي العمق، لا نعثر على تلك الديمقراطية المزعومة.
يعلم القائمون على هذا النظام، أن الجهاز القانوني، والنظام السياسي الذي تمثله الديمقراطية، وقيام دولة الحق والقانون هو الصيغة الضامنة لشيوع مبادئ الحرية والعدالة والمواطنة، لذلك تسعى القوى المهيمنة بكل ما أوتيت من قوة مقاومة كل محاولة لتشكيل لواقعنا السياسي، والانتصار لتصورات وآليات جامدة تسقطها على الواقع، إسهامًا منها لتجميد راهنية الأحداث والانتصار لمقولات الماضي بلبوس ديمقراطي مزيف.
لا يوجد راهن حقيقي ما لم يوجد تفكير خلاق، ولا يوجد هذا الأخير مالم يكن محميًا بنظام سياسي ديمقراطي حقيقي، ولا يوجد هذا النظام ما لم نعثر على نخبة سياسية تدفعها الرغبة الأصيلة بالتغيير، وهذه العناصر الثلاثة تشكل أي بنية سياسية لنظام يقدس الحريات.
ومع انعدام هذه البنية فلا يعوزنا الاستنتاج أن أي نظام يفتقر لهذه الشروط فهو نظام استبدادي، وأن تغطى بشكل الديمقراطية. وإلا ماذا يعني شيوع حالة رهاب النقد وحرية التفكير بتبريرات واهية عادة ما تُسَوَّق كونها تشكل خطرًا وشيكًا على رموزنا الدينية والسياسية، الأمر الذي يوضح بجلاء رهبة السياسي العراقي من سلطة النقد لدرجة استشعار الخطر من برنامج سياسي يحاول فتح إمكانات جديدة للتفكير والحياة واستضافة شخصيات ثقافية وسياسية تختلف مع "فلسفة" النظام الحالي.
يصعب تعريف نظام العراق السياسي على أنه نظام ديمقراطي
خلاصة الموضوع، أن نظامًا سياسيًا ترهبه سلطة النقد، وعملية التفكير، التي تسهم في تطويره وبناء أسسه، لهو نظام يحتضر بكل معنى الكلمة. نظام يحمل معول تهديمه بيده. ولسان حاله يقول: لا تفكروا ظنًا منكم بإعادة تشكيل الواقع وتوليف عناصر جديدة تمدنا برؤى وتصورات ومواد تحليلية لفهم الواقع، أتركوا هذا الأمر لنا؛ فنحن قادرون بمدة وجيزة لإحالة هذا الواقع إلى خراب.
إن كنتم تحاولون فتح إمكانيات للحضور فنحن بدورنا سنخلق إمكانيات للغياب، لكنّه غياب سنكون نحن أول ضحاياه فلا تستعجلوا النتائج.