بدتْ عطلة الزيارة الأربعينية، بالنسبة لكثيرين، هدنة لتنفيس الاحتقان الشديد الذي انتهت إليه مسارات ما بات يعرف بـ"الانسداد السياسي"، المستمر منذ قرابة العام، والذي وصل إلى نقطة حربٍ أهليةٍ كادت أن تنزلق إليها القوى المتصارعة بعد تصاعد وتيرة الاحتجاجات الصدرية، وما آلت إليه من صدامات مسلحة شهدتها المنطقة الخضراء أواخر شهر آب/أغسطس المنصرم.
عادة الحديث عن الأزمة السياسية الأعقد منذ 2003 بعد انتهاء الزيارة الأربعينية
بعد انتهاء مراسم الزيارة الدينية، وأُفول هيمنتها على الأجواء، عاد الحديث عن الأزمة السياسية الأكبر منذ العام 2003 إلى واجهة الأحداث، مرةً أُخرى، في ضوء متغيرات كبيرة طرأت على المشهد السياسي، كاعتزال الصدر وانسحاب معتصمي التيار الصدري والإطار التنسيقي من المنطقة الخضراء، إضافة إلى حراك حلفاء الصدر والذي وصف بـ"التقارب" مع قوى الإطار التنسيقي لإيجاد مخرج للأزمة الراهنة.
وفي ظل هذه المتغيرات، يتحدث مراقبون عن المسارات الممكنة والسيناريوهات المطروحة للحل المفترض الذي تُشَكَّل ملامحه في غرف تفاوض حلفاء الصدر وخصومه خلال فترة التهدئة، وما إذا كان بمقدور الصدريين أخذ زمام المبادرة مرةً أُخرى للتأثير على المعادلة السياسية التي تسعى لفرضها قوى الإطار التنسيقي.
الانتخابات المبكرة.. طريق واحد ومسارات مختلفة
في أول موقف سياسي صدري عقب أحداث الخضراء، أعرب الحساب المقرب من زعيم التيار، "صالح محمد العراقي" عن رغبة ببقاء رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء على رأس حكومة تصريف أعمال للتهيئة للانتخابات المبكرة بعد حل البرلمان، معتبرًا أن "المفاتيح عند أول الحل لا عند القضاء المسيس ولا عند المحاكم الخائفة".
أما على الجانب الآخر، فقد تمسك الإطار التنسيقي برؤيته، حيث أكد النائب عن تحالف الفتح, المنضوي في الإطار التنسيقي، علي الفتلاوي، أن "حكومة برئاسة السوداني ستطرح كحلّ وحيد أمام زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر"، مشددًا على أن "خيار التجديد لمصطفى الكاظمي لن يكون مطروحًا البتة داخل الإطار التنسيقي".
لكن رد المحكمة الاتحادية للدعوى التي أقامتها الهيئة السياسية للتيار الصدري لحل البرلمان، قاد إلى حصر الطرق نحو الانتخابات المبكرة بالطريق "الدستوري"، عبر انتخاب رئيسٍ للجمهورية وتشكيل حكومة كاملة الصلاحيات، وهذا ما قد يرجح قبول الصدر بهذا الخيار، باشتراطات تجعل رؤيته للحل على نقيض ما تطرحه قوى الإطار التنسيقي.
يؤكد تحالف الفتح أن محمد شياع السوداني لن ينسحب من تكليفه بتشكيل الحكومة
يقول المحلل السياسي مناف الموسوي، إن "ما هو مقبول من قبل الصدريين هو مشروع حكومة مستقلة بعيدة عن الإطار والتيار تكون مهامها تحديد موعد ثابت للانتخابات المبكرة والعمل على إجرائها فقط، فمشروع تشكيل حكومة إطارية مرفوض من قبل جماهير التيار الصدري والجماهير التشرينية أيضًا".
ويضيف المحلل السياسي، المقرب من التيار الصدري، في مقابلة تلفزيونية تابعها "ألترا عراق"، أن "الرؤية التي تسعى للعمل بالآليات الدستورية، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، لن تسمح بها جماهير التيار، ولن يستطيع أحد منع هذه الجماهير من النزول إلى الشارع مرةً أخرى، والضربة السابقة للجماهير ستكون وبالًا على الجميع إن تكررت".
في هذا السياق، يرى باحثون سياسيون أن سلوك قوى الإطار التنسيقي هذه الفترة سيعمل كمحدد أساس لخطوات الصدر المقبلة، إذ من الممكن أن يلجأ الصدر مرةً أخرى إلى الشارع لفرض اشتراطاته.
يقول الباحث السياسي عقيل عباس: "إذا شعر الصدر بأن القوى ذاهبة نحو حكومة إطارية كاملة الصلاحيات، فإنه سيلجأ إلى المسار الثاني وهو المسار الاحتجاجي والتصعيد بقوة للتأثير على المسار الأول: السياسي". لأن الصدر، بحسب عباس "لم يبقَ أمامه إلا اللجوء إلى الآليات الدستورية الحالية للذهاب إلى الانتخابات المبكرة".
ويعلل الباحث السياسي، في حديث لـ"ألترا عراق"، سيناريو نزول الصدر الى الشارع: "سيضغط الصدر عبر الشارع لكي لا تستخدم هذه الآليات الدستورية ضده، بمعنى عدم السماح بتشكيل حكومة إطارية، أي تشكيل حكومة يُتفق على ملامحها ومن دون إجراء تعديلات كبيرة على المنظومة الانتخابية، أي قانون الانتخابات والمفوضية".
"تقارب" الحلفاء والخصوم.. هل يتراجع الصدر؟
إلى جانب طبيعة تعاطي قوى الإطار التنسيقي مع الأزمة الراهنة، برز محدد آخر لتحركات الصدر المقبلة، حيث مثَّل حراك الحزب الديمقراطي الكردستاني وتحالف السيادة، والذي وصف بـ"التقارب" مع خصوم الصدر، عاملًا ضاغطًا على الصدر، بحسب مراقبين، رغم تأكيدات "البارتي" على أن "لا تكون جلسة مجلس النواب بعيدة عن رضا التيار الصدري وزعيمه مقتدى الصدر".
يسعى الإطار التنسيقي لعقد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لتكليف مرشحه بتشكيل الحكومة، بينما يرى مراقبون أن حلفاء الصدر لا يثقون بالإطار
عن ذلك، يقول المحلل السياسي باسل حسين: "لا شك بوجود تقارب ما بين تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة، والإطار من جهة أخرى، وربما يصل في النهاية إلى اتفاق مبنٍ على خطوات أو برنامج عمل كأحد شروط الاتفاق أو التحالف، لكن حلفاء الصدر بالتأكيد سيحاولون عدم تجاوز الصدر أو مطالبه في حواراتهما مع الإطار التنسيقي".
ويستدرك المحلل السياسي في حديثه لـ"ألترا عراق"، قائلًا: "من الصعوبة بمكان التحدث بحتميات في بيئة مشبعة باللا يقين، لكن بالتأكيد أن الإطار التنسيقي يحاول أن يعجل من انعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية لغرض تكليف مرشحه لرئاسة الوزراء أو أي شخصية أخرى يتم الاتفاق عليها".
ويضيف باسل حسين: "ربما يدخل متغير آخر يتعلق بالدعوى المرفوعة من بعض النواب في الطعن في جلسة الاستبدال والمطالبة بإصدار أمر ولائي بإيقاف عمل المجلس لحين البت في الدعوى".
وكان رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي قد دعا إلى "اتفاق معلن وجلسة للحوار الوطني"، مؤكدًا على "انتخاب رئيس الجمهورية وحكومة كاملة الصلاحية" إضافة إلى "تعديل المادة 76 من الدستور وإقرار قانون المحكمة الاتحادية وفق المادة 92 من الدستور".
بينما يستبعد المحلل السياسي مناف الموسوي سيناريو وصول حلفاء الصدر وخصومه إلى اتفاق قد يضغط على الصدر للتراجع عن رؤيته للحل، ويقول إن "ما يروج له من تقارب بين البارتي والسيادة مع الإطار التنسيقي لا صحة له، أو هو في أفضل الأحوال تفاؤل كبير".
ويبرر الموسوي وجهة نظره بالقول، إن "الانطلاق في تحليل تحركات البارتي والسيادة على أنهما طرفان براغماتيان يسعيان لمصالحهما فقط، هو تحليل غير واقعي تمامًا، فالطرفان اشتركا سابقًا مع هذه القوى ويعلمان جيدًا أن لهجة وسلوك ما بعد تشكيل الحكومة لن يكونا كما قبله".
السوداني قد ينسحب.. الكاظمي والعبادي بديلان
من جانب آخر، يرى الباحث السياسي عقيل عباس، أن التصورات المطروحة بناءً على حراك (البارتي - السيادة - الإطار) هشة وقابلة للتغير بنسبة كبيرة، يقول عباس، ويضيف: "الخلاف لا زال قائمًا داخل قوى الإطار، فهناك أطراف كثيرة تريد خلق تسوية مقبولة من الصدر، ولذا بحسب تصوري فأن ترشيح شياع السوداني سيسحب في آخر المطاف، فالمعادلة تتراوح بين الكاظمي والعبادي كمرشحين لتشكيل الحكومة".
وكان محمد شياع السوداني قد عقد اجتماعًا في 20 أيلول/سبتمبر 2022، مع نواب في البرلمان، للتباحث حول تشكيل الحكومة، و"إفهام النواب بالبرنامج والخطة الحكومية المقبلة بشكل مبكر".
ورقة محمد شياع السوداني سُتسحب، بينما ترتفع حظوظ حيدر العبادي ومصطفى الكاظمي، بحسب مراقبين
ويشير عباس في حديث لـ"ألترا عراق" إلى أن "الطرف الوحيد الذي لا يزال مصرًا على الحكومة الإطارية هو جناح المالكي، فحتى جناح عصائب أهل الحق قد تراجع عن تفاهماته السابقة وتقاربه مع المالكي لأن المسار الذي يريده المالكي سيؤدي إلى إشعال الشارع مرة أخرى".
وكان نوري المالكي، زعيم ائتلاف دولة القانون المنضوي في الإطار التنسيقي، قد دعا إلى "تفعيل البرلمان وتشكيل حكومة ائتلافية لتحقيق الاستقرار السياسي" معتبرًا أن الحديث عن الانتخابات المبكرة "مرفوض من قبل القوى السياسية ولا داع له" وأنه "محسوم دستوريًا وقضائيًا وسياسيًا".
وفيما يشبه الرد على موقف المالكي، كتب حيدر العبادي، أحد أطراف الإطار التنسيقي، تغريدة دعا فيها إلى "لاتفاق سياسي يفضي لاعتبار المرحلة الراهنة انتقالية، تبدأ بتشكيل حكومة وتنتهي بحل البرلمان وإجراءات انتخابات مبكرة" مؤكدًا على أن "أي مسار يقوم على كسر الإرادة سيكون وبالاً على الشعب والدولة".
ويفترض الباحث عقيل عباس أن المعادلة التي تسعى لفرضها بعض قوى الإطار التنسيقي لن تصمد فيما لو عاد الصدر إلى الشارع، ويقول: "لم يفقد الصدر زخمه، إنما هو في طور إعادة ترتيب أوراقه وقواه ولا تزال بيده أوراق قوية لا ينبغي الاستهانة بها، فبإمكان الصدر اجتراح مسار تصعيدي إذ لا يزال قادرًا على كسر المعادلة التوافقية وإقلاق القوى الإطارية المتشددة".
أما عن الدور الايراني وتأثيراته على خطوات الصدر المقبلة، يرى عقيل عباس، أن "محاولة إضعاف الصدر بشكل واضح من قبل إيران قد تصب في صالحه شعبيًا بحيث تجلب قوى أُخرى من المجتمع لصالحه، فالدور الإيراني يستفز شرائح واسعة من المجتمع بوصفه تهديدًا للوطنية العراقية".